الصفحة الرئيسية • وجهة نظرأقلام وآراء الشبيبة عبد اللطيف زروال: سمير أمين .. شكرا أيها الرفيق

عبد اللطيف زروال: سمير أمين .. شكرا أيها الرفيق

كتبه user B

سمير أمين … شكرا أيها الرفيق

عبد اللطيف زروال (13 غشت 2018)

رحل عنا أمس المفكر الماركسي المصري الكبير سمير أمين. انضم الأخير باكرا للحركة الشيوعية. و انتمى إلى جيل من المثقفين الشيوعيين المنحدرين من الجنوب الذين انتفضوا في الخمسينات و الستينات ضد “الماركسية السوفييتية” (حسب تعبير ماركوز)، الموروثة من عصر الانحطاط الستاليني، التي حنطت فكر ماركس الحي و حولته إلى مجوعة من المقولات الجاهزة و شكلت إيديولوجيا البيروقراطية السوفييتية. كانت هذه الأخيرة عاجزة (بحكم مصالحها كطبقة سائدة في الاتحاد السوفييتي) عن أن ترى في “صحوة الجنوب” وصعود حركات التحرر و إمكانيات تجذيرها الهائلة تعبيرا عن تحول نوعي في مركز ثقل الثورة الاشتراكية على الصعيد العالمي. لم تكن بالنسبة لها في أحسن الأحوال سوى فرصة لتعزيز موقعها في “حربها الباردة” مع البورجوازية الأمبريالية الأمريكية. وجدت هذه القطيعة مع “الماركسية السوفييتية” تعبيرها السياسي لدى سمير أمين في تبني الماوية. حافظ طول حياته على جوهر التزامه السياسي و الإيديولوجي. ظل إلى آخر رمق شيوعيا أمميا دون أن يستسلم للكسل الفكري و استمر بدون كلل و لا تعب في الجدال و النقاش مع مختلف الإسهامات النظرية خاصة النقدية منها. بالنسبة لشاب مثلي ينتمي لجيل شيوعيي “ما بعد الانهيار” (أي ما بعد انهيار حائط برلين)، مثل سمير أمين مثالا ناصعا على الوفاء لقضايا التحرر الوطني و الاجتماعي. كانت كتاباته، بحكم استنادها على عقود من نقد الرأسمالية و “السوفييتية” (هو تعبير استعمله أمين لتوصيف ما كان سائدا في الاتحاد السوفييتي)، دواء ضد الاستسلام للوعود الخادعة و الكاذبة للرأسمالية و نبراسا لفهم و استيعاب جذور و أسباب انهيار ما سمي زورا بالمعسكر “الاشتراكي”. لقد بلور سمير أمين منظورا ماركسيا متجددا:

– يفكر في الرأسمالية كنظام عالمي: أسس ماركس في “رأس المال” لأهم و أقوى تصور نظري في فهم نمط الإنتاج الرأسمالي غير أنه لم يكن له لا الوقت و لا الإمكانية لدراسات آثار تحوله إلى نظام عالمي. إن أهم إسهام لسمير أمين (و لغيره من اقتصاديي ما يسمى بمدرسة التبعية) يتمثل في تطبيق المفاهيم الأساسية للنقد الماركسي الاقتصاد السياسي على الصعيد العالمي و توسيع “نطاقها التفسيري”. فمن أطروحة الدكتوراة في الاقتصاد التي ناقشها(1957) ثم نشرها تحت عنوان “التراكم على الصعيد العالمي” (1970) إلى كتابه “قانون القيمة المعولم” (2011) مرورا ب”التطور اللامتكافئ” (1973)، وضع أمين أسس تصور نظري متماسك للنظام الرأسمالي العالمي باعتباره مستندا على التناقض بين مركز (هو اليوم الثالوث الإمبريالي اليابان أوروبا الغربية و أمريكا) و محيط (هو الجنوب بمعناه الشامل) حيث “تخلف” الثاني هو شرط أساسي ل”تقدم” الأول. ينبني هذا التناقض على الطابع غير المكتمل للسوق العالمية (على عكس السوق الوطنية). ففيما توجد سوق عالمية للسلع و الرساميل لا توجد سوق عالمية لقوة العمل لتظل الأجور في الأطراف (أو المحيط) منخفضة بشكل كبير بالمقارنة مع دول المركز (إذا أخذنا نفس المستوى من الإنتاجية). تستفيد الشركات الاحتكارية المعولمة من هذا الفارق لتحقيق أرباح مضاعفة تتحول إلى ريع أمبريالي. يخلق هذا الاستقطاب نموذجين اقتصاديين: الأول متمركز حول الذات و مترابط الأجزاء في المركز و الثاني مفكك و خاضع للأول في المحيط.

– لا يفصل بين نقد الاقتصاد السياسي و المادية التاريخية: بسبب عجزها عن استيعاب جوهر النقد الماركسي للاقتصاد السياسي فصلت “الماركسية السوفييتية” بين “علم اقتصادي ماركسي” و نظرية ماركسية لتطور التاريخ و المجتمعات هي المادية التاريخية. في المقابل، أكد سمير أمين في “‘قانون القيمة و المادية التاريخية” (1977) على الترابط الوثيق بين نقد الاقتصاد السياسي و المادية التاريخية. إن قوانين الرأسمالية التي اكتشفها ماركس (على رأسها قانون القيمة) هي جزء من قوانين المادية التاريخية. إن فهم الأولى بشكل منفصل عن قوانين الصراع الطبقي (انظر تحليله للريع في نفس الكتاب) و التطور التاريخي هو خطأ نظري بالغ الخطورة و الضرر. يضع أمين نفسه هنا في إطار منظور لا يفصل تحليل “الظواهر الاقتصادية” عن دراسة المجتمعات.

– ينتقد النزعة الأورو مركزية: قدم سمير أمين في عدد من كتاباته (“المركزية الأوروبية. نقد لإيدولوجيا” 1988) نقدا للنزعة الأورومركزية و شدد على أن أي كونية تحررية حقيقية لا يمكنها إلا أن تستند على “العبقرية الإبداعية لجميع الشعوب”. وقد كانت أطروحته حول “نمط الإنتاج الخراجي” نقدا للتحنيط “السوفييتي” للتصور الماركسي لتطور المجتمعات المختزل في الخطاطة الخماسية الشهيرة (المشاعة البدائية ثم العبودية فالإقطاع و الرأسمالية ثم الشيوعية) أي في منظور أورومركزي يرى في تاريخ العالم مرآة لتاريخ أوروبا. و دون التخلي عن القناعة بوجود تاريخ كوني، قدم أمين رؤية ترى في الإقطاع الأوروبي الشكل الطرفي ل”نمط الإنتاج الخراجي” الذي “اكتمل” في الصين أساسا. و قد ساعد هذا الطابع الطرفي غير المكتمل على الانتقال نحو الرأسمالية في أوروبا.

– يرى في الجنوب مركز الثورة الاشتراكية العالمية: كما نشأت الرأسمالية في أطراف “المنظومة العالمية الخراجية” (أي في أوروبا)، فإن الجنوب أي محيط النظام الرأسمالي العالمي، حسب أمين، هو مركز التقدم الثوري نحو الاشتراكية. في الجنوب، توجد القوى الاجتماعية الأشد تعرضا للاستغلال و التي لها المصلحة الأكبر في القضاء على الرأسمالية. فعلى عكس أوهام “التطور الرأسمالي الوطني”، فإن الخروج من “التخلف” غير ممكن دون فك الارتباط مع النظام الرأسمالي العالمي أي دون الاندراج في استراتيجية لتجاوز للرأسمالية و تحقيق قطائع ثورية في إطار انتقال طويل نحو الاشتراكية. إن النضال ضد النهب الأمبريالي من أجل التحرر الوطني في الجنوب غير منفصل عند أمين عن النضال ضد الرأسمالية و من أجل التحرر الاجتماعي. يشكل بناء اقتصاد متمحور حول الذات خطوة أولى في مسار الانتقال نحو الاشتراكية.

– يميز بين الاشتراكية و “رأسمالية بدون رأسماليين”: اعتبر سمير أمين أن ما كان سائدا في الاتحاد السوفييتي هو “رأسمالية بدون رأسماليين” (في استعادة لأحد تعبيرات “إنجلز”) تسيطر فيها طبقة جديدة على وسائل الإنتاج لتسخرها من أجل اللحاق بالغرب. بينما اعتبر أمين أن التقدم الاجتماعي مرتبط بشكل وثيق بالدمقرطة. إن بناء الاشتراكية، بالنسبة له، غير منفصل عن تثوير علاقات الإنتاج و عن التملك الاجتماعي للاحتكارات المؤممة (عبر جعل “تدبيرها” اجتماعيا) و تغيير العلاقات الاجتماعية و بناء ديمقراطية أرقى.

تشكل هذه العناصر كنزا ثمينا لأنصار التحرر الوطني و الاجتماعي عبر العالم. و رغم بعض مواقفه التي أراها خاطئة في عدد من القضايا (مثل انبهاره ب”الجذرية الثورية” للخمير الحمر في الكامبودج في السبعينات و أوهامه حول صعود السيسي في مصر و دعمه للتدخل العسكري الفرنسي الأخير بمالي) و التي يجب تحليل جذورها النظرية، فإن المنظورات التي بلورها تشكل أكبر و أهم إسهام قدمه ماركسي من الجنوب في الثلث الأخير من القرن العشرين، إسهام ينير الطريق في ظل “خريف الرأسمالية” لكل من يتطلعون لانطلاق “ربيع الشعوب” الذي طالما سعى لرؤيته قبل وفاته محذرا من مخاطر غياب بديل ثوري قد يفتح الطريق لصعود الفاشية لأن “الطبيعة لا تقبل الفراغ”.

أيها الرفيق سمير أمين

شكرا على هذا الكنز الثمين

وداعا

قد تعجبك أيضاً

اترك تعليقًا