547
ل.م
تجري في المغرب لعبة قذرة، أداتها الأساسية، ما يصفه الرأي العام بـ “صحافة التشهير”، التي وضعت على عاتقها تزييف الحقائق وتضليل الرأي العام الوطني والدولي حول مجريات الأحداث الوطنية، وتسخر إمكانياتها من أجل استهداف شخصيات عامة، من حقوقيين وصحافيين؛ لكن ماذا عن المنظمات السياسية والجمعيات الجادة، التي لا تتفق مع سياسات السلطة المغربية؟، إن الإعلام المضلل لا يشكل خطرا على مطلب الديمقراطية فقط، بل يشكل خطرا أكبر على العمل الإعلامي الجاد والمستقل. وفي هذه الورقة يكشف موقع Chabiba.org، تفاصيل شبكة قذرة، بالغة التنسيق، تستهدف المعارضة المغربية، عبر أخبار زائفة.
إن الأيادي التي تقف وراء حملات تشهير هاته، بالغة الإحكام والتخطيط، تنطلق وفق برنامج دعائي ينطلق ببروباغندا تمهيدية، ويبلغ لحظات الذروة مع الحدث المرتقب، ثم تأتي الكاسحات لتلمع وجه “أصحاب الحال” وتخلق فزاعات تنسب إليها مسؤولية الأحداث.
ولتوضيح ذلك، نعود بعقارب الزمن إلى أحداث جرادة بتاريخ 14 مارس 2018. وفي هذه الحالة التشهير يستهدف منظمات سياسية. ويكشف هذا التحقيق، مواقع إلكترونية “إخبارية” تنخرط في حملة تشهير كبيرة، بمشاركة أكثر من 20 “منبرا”، البعض منها ينتج المادة الأصلية (المصدر الأصلي)، وأخرى ناشر فرعي، أحيانا تنشر المادة الأصلية كما هي، بذكر المصدر أو بدونه، وأحيانا أخرى بتغيير العنوان دون تغيير جسد النص، وفي مرّات أخرى تزيد من عندها. لكن الهدف واحد: تزييف الحقيقة..
ولأحداث جرادة سياق تاريخي قديم، دققه تقرير للائتلاف المغربي لهيئات حقوق الإنسان، وهي شبكة حقوقية ذات مصداقية عالية، ويعود مجرى الأحداث إلى سنة 1908 بعد اكتشاف الفحم الحجري ثم بدأ استغلال المنجم، وصل عدد العمال إلى 6000، منهم 5300 عاملا مغربيا و700 أوروبيا، فانتقل عدد السكان من 500 سنة 1930 إلى 59367 سنة 1994، لتصبح بذلك مدينة جرادة ثالث أكبر تجمع سكني بالجهة الشرقية وثاني مدينة عمالية ومنجمية بالمغرب بعد خريبكة. وبعد عقود من الازدهار والمساهمة في خلق الثروة، أصبحت الدولة تعتبر شركة الفحم منذ نهاية الثمانينات عبئا على الميزانية العامة، بسبب ارتفاع كلفة استخراج الفحم، فاتجهت الدولة نحو تصفية الشركة، وتم توقيع “اتفاقية جماعية” تم بموجبها تسريح العمال مقابل تخصيص ميزانية لتعويضهم، بالإضافة إلى عدة توافقات اجتماعية مع ممثليهم، وتقديم مشروع برنامج يضم مجموعة اقتراحات وتدابير كقاعدة للتدارس والبحث، وبسبب عدم وضع برنامج وتمويل وميزانية له، وكذلك إغفال الشق الاقتصادي وبدائل إغلاق المناجم، دخلت مدينة جرادة في ركود اقتصادي مميت، وهو ما أدى إلى هجرة 800 أسرة حسب المصادر الرسمية، وهجرة الكثير من الشباب إلى الضفة الأخرى من القارة ممتطين قوارب الموت.
وأدى الركود الاقتصادي، الذي عرفته المدينة، إلى دخول شباب المدينة والعديد من العمال المنجميين السابقين في مخاطرة استخراج الفحم من باطن الأرض بوسائل بدائية وفي ظروف مأساوية، وبيعه بأثمنة تقدر بـ 60 إلى 80 درها للقنطار لأصحاب رخص التنقيب المعدني، الذين يسوقونه لفائدة شركات ووزارات ومؤسسات بعشرة أضعاف ثمن اقتنائه؛ وتوفي على إثر ظروف العمال بـ”الساندريات” 44 عاملا بين سنتي 1998 و2018، فيما لم تعمل السلطات على إيجاد بديل عن النشاط المنجمي المحفوف بالمخاطر لسكان المدينة.
وعرفت المدينة عدة احتجاجات للشباب المعطلين وعمال المناجم السابقين المصابين بداء “السيليكوز“، وعمال الساندريات؛ تلتها احتجاجات بداية من شهر دجنبر 2017 على غلاء أسعار فواتير الماء والكهرباء، تلتها تدخلات عنيفة من طرف السلطة؛ وبتاريخ 22 دجنبر 2017 توفي شابين داخل بئر لاستخراج الفحم الحجري “الساندري” (حسين دعوي 30 سنة و جدوان دعوي 24 سنة)، وبسبب عجز الوقاية المدنية عن انتشال جثمانيهما بسبب انعدام الإمكانيات اللوجيستيكية ظل الفقيدين داخل البئر لأزيد من 24 ساعة، ليقوم بعض عمال الساندريال باستخراجهما.
وتلت الحادثة احتجاجات عارمة للمطالبة ببديل اقتصادي، حمل خلالها المتظاهرون أعلام المغرب وصور الملك، في إشارة واضحة على أن الاحتجاجات لها طابع اجتماعي محض، وسعيا من المحتجين إسقاط تهمة “العمالة للخارج” والتآمر ضد أمن الدولة”.
وتعرض المحتجون لاعتقالات عدة، وبينما كانت السلطات تدعي سعيها للحوار وإيجاد حلول تشاركية، بتاريخ 13 مارس 2018 أصدرت السلطات قرارا بمنع جميع التظاهرات غير المرخص لها بالشوارع والطرق العمومية. وبتاريخ 14 مارس 2018 نظم المتظاهرون اعتصاما بالمجال الغابوي المجاور للمدينة حيث تتواجد آبار الفحم، تجنبا للاحتجاج في الشوارع والساحات العمومية التي كانت منعتها السلطات؛ أدى التدخل العنيف للسطات، وحجم الإنزال الأمني الكبير إلى اندلاع مواجهات مع المتظاهرين، وهو ما عرض المواطنين وقوات الأمن لخطر حقيقي، حسب تقرير الائتلاف المغربي لهيئات حقوق الإنسان.
وكشفت أربعة أيام التي تحيط بالأحداث التي شهدتها مدينة جرادة، 13-14-15-16 مارس 2018، عن شبكة دعائية هائلة للتشهير بحراك جرادة والتشهير بقوتين سياسيتين هما حزب النهج الديمقراطي وجماعة العدل والإحسان، وبالرغم من كل ما يمكن أن يقال عن هاتين المنظمتين، فإن ما نحته هاته الشبكة من “صحافة التشهير” بعيد عن الواقع، ويتعلق الأمر بتزييف معمق للأحداث.
ومباشرة بعد قرار وزارة الداخلية بـ “منع جميع التظاهرات غير المرخص لها بالشوارع والطرق العمومية” بمدينة جرادة، بتاريخ 13 مارس 2018، ظهر موقع سينكشف لاحقا أنه من أدوات الدعاية الأكثر نشاطا في عملية التشهير، موقع “تيليكسبريس Telexpresse” يخصص مقالة عنونها بـ: “مجهودات الدولة بجرادة تُواجه بتبخيس من التيارات العدمية” اتهم فيها “التيارات العدمية خصوصا المنتمون لجماعة العدل والإحسان” بأنهم “يحاولون إجهاض كل المشاريع المقدمة بالمدينة”. وأضاف أنه ” أبانت الجماعة ومن يدور في فلكها من بعض التيارات العدمية اليسارية عن حقد دفين لكل ما هو مؤسسي لأنه يزعجها ويشكل سدا منيعا لمشروعها الظلامي”، مباشرة بعد نشر “المادة” يظهر موقع “ماروك بريس Marocpost ” الذي نشر نفس المادة دون إحداث أي تغييرات عليها، منخرطا في إعادة توزيع مواد الدعاية.
بنشر موقع واحد أو إثنين لمادة “خبرية” بنفس المضمون سيبدو الحدث عرضيا، لكن بعد ساعتين تقريبا من نشر المادة، المذكورة، موقع “كفى” ويدّعي بأنه جريدة الكترونية مستقلة، ينشر مادة يعنونها بـ”من يحرك احتجاحات جرادة” يتحدث فيها عن تلاقي “أهداف جماعة العدل والإحسان مع مصالح فئة من العدميين” الاحتجاجات حسب نفس “المنبر” تسللت إليها “أيديولوجية هدامة”، وهنا يظهر موقع آخر تبين أنه متخصص في إعادة نشر المواد التي تدخل في نفس السياق من منابر مختلفة، موقع “أركانة بريس Arganapress” نشر المادة دون تغيير ودون الإشارة للمصدر.
في نفس اليوم 13 مارس 2018 موقع آخر يسمى “24 ساعة 24saa” ينشر مادة أخرى معنونة بـ “عندما يغرق العدميون والظلاميون في تيار حراك جرادة” يتحدث مرة أخرى بنفس لغة المواقع السابقة وبنفس الخطاب عن أن ” بعض العدميين والظلاميين يميلون الآن إلى اعتبار الحراك بركة مياه عكرة يصطادون فيها ما تعذر عليهم تحقيقه من أحلامهم الخرقاء” ويردف نفس الموقع أن “من يتقاتلون على تبنيه (الحراك الاجتماعي) ورعايته ورفده بمزيد من الهتافات الفارغة لا يؤمنون أصلا بمقتضيات التدافع السياسي بدعوى أن السياسة، عند العدميين، تجسيد لقيم ومؤامرات صغار البرجوازيين والليبراليين المتوحشين بينما يراها أهل القومة رجسا من عمل الشيطان وممارسة فاسدة في فضاء ملوث.”.
يتضح إذا وقبل الأحداث التي ستشهدها جرادة بيوم واحد، انخرطت خمسة مواقع في تزيين بلاغ وزارة الداخلية القاضي بمنع التظاهر، لكن وعلى عكس بلاغ وزارة الداخلية فإن هاته المواقع قفزت مباشرة إلى اتهام “جماعة العدل والإحسان” و”العدميين” بمحاولة تسييس الاحتجاجات والركوب عليها وزرع أيديولوجيتها الهدامة. و”العدميين” هو تعبير شائع في الخطاب السياسي الرسمي للدولة المغربية عادة ما يراد أن يلصق بـ “حزب النهج الديمقراطي” أو مجموعات يسارية ماركسية خريجة الجامعة المغربية.
بعد الأحداث التي شهدها اليوم الموالي، 14 مارس 2018، تتأكد شبكة صحافة التشهير، لكن مع ظهور الكبار، وتأكدت أدوار المواقع السابقة الذكر؛ خرجت جريدة “الصباح” بمقالة عنونتها بـ “حرب عصابات تنسف هدنة جرادة” لتتحدث عن “مليشيات منظمة تحركها أجندات بحسابات سياسية، يتزعمها مريدو العدل والإحسان وأعضاء خلايا حزب النهج”. مع التسطير على “خلايا”، ولم تتكبد “الجريدة العريقة” عناء الحديث عن الإصابات في صفوف المواطنين، الأمر يتعلق بـ “مليشيات متطرفة دخلت اليوم (الأربعاء) في مواجهات مع القوات العمومية أسفرت عن إصابات 70 عنصرا موزعين بين الدرك الملكي القوات المساعدة، وإحراق ثلاث عربات ناقلة لعناصر الأمن”. من “حرب عصابات” إلى ” مليشيات منظمة تنسف هدنة جرادة” هكذا تحولت الوقائع عند موقع “المغرب 24” الذي غير العنوان دون تغيير في جسد “القصاصة”، بل أعطى العنوان مضموما أكثر إثارة للخوف، وأكثر تجريما “للعدميين والظلاميين”.
يظهر على نفس المنحى، موقع آخر، “أكورا Agora” في مقالة عنونها بـ “جرادة: الحالمون والعدميون يصرون على ممارسة خبثهم اتجاه بلدهم” ولا يخرج عن نفس الرسائل التي وزعتها المواقع السابقة، ويتساءل ” ألا تريد جماعة “العدل والإحسان”، ومعها بقايا اليسار القاعدي وبقايا العدميين، الكف عن الخبث السياسي والأخلاقي؟!!” الموقع المعلوم تحدث عن إصرار القوى المذكورة على “تحريض الساكنة بشكل متواصل على الاحتجاج بدون احترام المقتضيات القانونية، مما يربك الحياة العادية بالمنطقة.” لم يتأخر موقع “أركانة بريس Arganapress” في نشر نفس المواد وكالعادة بنفس العنوان ودون إشارة للمصدر، وهنا ينكشف “العَود مع سابق الإصرار والترصد والنية المبيّتة”، كما يقول القانونيون في إعادة نشر نفس الرسائل وبنفس الطريقة الآلية.
ليس من الغريب من أن يظهر موقع “أحداث أنفو” اللسان الرقمي للجريدة الورقية “الأحداث المغربية” ذات السمعة السيئة، بمقال عنونه بـ “الجماعة والنهج يفسدان على جرادة احتجاجاتها السلمية (لائحة الخسائر بعد المواجهات)” الموقع “وبلغة تقريرية” يقول إنه “أفسدت جماعة العدل والإحسان وتيار اليسار العدمي ممثلا في النهج ومن معه على ساكنة جرادة الاحتجاجات السلمية التي استمرت مدة طويلة دون وقوع أي اختلال بعد دخول متطرفي الجماعة ومتطرفي اليسار العدمي على الخط وركوبهما معا على مطالب السكان العادلة”. وكالعادة يظهر موقع “أركانة بريس Arganapress” بمنشور لا يخرج عن الطريقة المعهودة، كذلك الأمر بالنسبة لموقع آخر اسمه “ماروكينو Marokino” (جبدناه بلفنيتة)، لينشر نفس المادة، وتبين أنه أيضا منخرط بنفس طريقة “أركانة بريس” في نشر الدعاية المسمومة.
كشف حساب صحافة التشهير في قضية جرادة سرعان ما سيكشف عن البروباغندا المستمرة لموقع “أكورا Agora” بمنشور آخر، وظهور موقع من المواقع التي كادت أن تصبح منبرا رسميا لـ”صحاب الحال”، الأمر يتعلق بـ”برلمان.كوم Barlamane” المملوك لصاحبه “عمر خباشي” وربطت تحقيقات صحفية سابقة، من ضمنها موقع “لوديسك“، بين “صاحبنا” وجهاز الاستخبارات “لادجيد”، وأكد التحقيق انخراط “خباشي” في أدوار ذات طبيعة استخباراتية والتضليل الإعلامي. الموقع المذكور ينشر مقالة بعنوان: “جرادة: احتجاجات تقودها العدل والإحسان والنهج تخلف ضحايا وخسائر ثقيلة بصفوف القوات العمومية (فيديو)“، “مصادر” برلمان.كوم أوضحت أن “تصدي القوات العمومية للاحتجاجات التي قادتها على الخصوص كل من جماعة العدل والإحسان الإسلامية، وعدد من المنتمين لحزب النهج الديمقراطي، خلفت إصابة 73 عنصرا، بينهم 51 شخصا من قوات الدرك الملكي، و22 تابعين للقوات المسلحة الملكية، فيما تم نقل عنصرين اثنين من القوات العمومية على وجه السرعة إلى المركز الاستشفائي الجامي بوجدة، بعد إصابتهم إصابات خطيرة”، الأمر يتعلق إذا بجماعة العدل والإحسان وحزب النهج سببوا كل هذه الخسائر. موقعين آخرين يرتويان من نفس المنبع، موقع “بريس هيس presshes” ينشر نفس المادة، وموقع آخر اسمه “أسراك Assarag 24” ينشر نفس المادة، وفق عنوان “منقح”.
وتمتد خيوط الشبكة في التوسع والاغتناء، أربعة أيام فقط انكشف فيها ما يناهز 21 موقعا إلكترونيا (الحملة استمرت بعد ذلك لكن لم يشملها التحقيق)، كلها تعمل على نشر نفس الرسالة: جماعة العدل والإحسان وحزب النهج الديمقراطي يسيسون حراك جرادة، هاتين القوتين هما المسؤوليتان عن الأحداث، تسعى إلى تكريس الفوضى، ميليشيات، عصابات، الفتنة..، لكن الأمر لا يتعلق بحملة إعلامية خبيثة هدفها تشويه سمعة الإطارين المذكورين فقط، الأمر يتعداه إلى مستويات حكومية أعلى، وتبين أنها كانت تهدف إلى تمهيد الطريق، وإقامة الحجة لصالح “أم الوزارات”، حتى تعلق على الفزاعتين مخلفات الأحداث بجرادة.
بعد مرور أسبوعين من الأحداث، يخرج وزير الداخلية، عبد الوافي لفتيت، باتهام صريح لجماعة العدل والإحسان، وحزب النهج الديمقراطي والجمعية المغربية لحقوق الإنسان، بإشعال احتجاجات جرادة، خلال اجتماع للجنة الداخلية والجماعات الترابية والسكنى وسياسة المدينة بمجلس النواب. لتنكشف ارتباطات الحملة والاتهامات المسبقة التي وجّهتها الصحافة الصفراء لهاتين القوتين، برغبة وزارة الداخلية في الربط بينها وبين الأحداث. من هو المصدر الأصلي الذي أبرق لهاته المواقع بشن هاته الحملة؟
رابط تحميل جدول شبكة التشهير