166
محمد شاعر
اجتاح العالم منذ آواخر القرن 20 م وباء العولمة، الذي كان عدد ضحاياه غير المعلن أكثر بكثير من ضحايا الجائعة الحالية، لقد جرف وباء العولمة والرأسمالية المتوحشة طيلة العقود الثلاثة الاخيرة البشر والطبيعة، مستخدما آلياته المتوحشة السياسية والاقتصادية والمالية، حيث لم يسلما معا من وحشية سياسته ورأسمالييه في مركزه وأتباعهم من الانظمة الاستبدادية في أطراف النظام المعولم. وكانت النتائج كارثية بشريا وبيئيا. وهذه النتائج التي تبرز في آلاف الملايين من العاطلين، وعددا أكثر من الفقراء والمشردين، ومثلهم من الهاربين من جحيم العطالة في بلدانهم الاصلية الى جحيم الاستغلال الفاحش في مراكز الرأسمال العالمية، بل وصل الأمر الى حدوث نقص التغذية والمجاعات في بلدان ذات موارد طبيعية ضخمة يستفيد منها الرأسمال العالمي على حساب الشعوب المالكة الحقيقية لهذه الموارد، وفي وقت ينتج فيه العالم فائضا من الإنتاج الغذائي. ودمرت الرأسمالية البيئة باستنزاف موارد طبيعية، وبتلويث غير مسبوق للماء والهواء والأرض، وزادت تواتر الكوارث الطبيعية من جفاف وفيضانات خلفت ضحايا يفوق عددهم ما أدت إليه كورونا لحد الآن.
وعلى النقيض من تضرر الشعوب زادت الرأسمالية المتوحشة من الغنى الفاحش لكبار الرأسماليين أصحاب الشركات المتعددة الاستيطان، هذا الغنى الفاحش غير المبرر سوى بالاستغلال الفاحش للطبقات الكادحة يؤشر عليه امتلاك أقل من %1 (الأغنياء) من سكان العالم لأزيد من 90% من ثرواته، وحسب تقرير ل OXFAM فإن 62 من أغنى “المليارديرات” في العالم يملكون ما يملك النصف الأفقر من سكان العالم. إنها اللامساواة الفاضحة سليلة الرأسمالية في ظل نظام العولمة التي عولمت الاستغلال الفاحش مستفيدة من التضييق على مجال حقوق الإنسان على المستوى الدولي، وخاصة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
ومع انطلاق وباء كورونا وقبل إعلان منظمة الصحة العالمية كوفيد 19 جائحة عالمية، ظل المطبلون للعولمة يدافعون على إبقاء الوضع على ما هو عليه، وكأن الفيروس صيني ولا يخضع لشروط العولمة، ولن يغادر ووهان. لكن الانتشار السريع للفيروس في عقر دار الرأسمالية العالمية أفضى إلى فضح حقيقة العولمة كأداة في يد الرأسمالية المتوحشة لاستغلال الطبقات الكادحة في عموم العالم، وكشفت الجائحة حقيقة حكومات الدول الرأسمالية الإمبريالية وتابعيها من أنظمة الأطراف، على أنها حكومات لحماية مصالح كبار الرأسماليين، وأنها الأداة السياسية للطبقات الرأسمالية في بلدانها.
هذه الحقائق برزت من خلال انزواء هذه الحكومات إلى حماية مصالحها الوطنية الضيقة، وأغلقت حدودها التجارية حتى بالنسبة للمواد الطبية، بل وقامت بعضها بسرقة دول لأدوية ومواد وآليات طبية موجهة من الصين إلى دول أخرى مثل ما فعلت الولايات المتحدة وغيرها مع مواد موجهة إلى أوربا. واستنكف بعضها عن المساعدة التضامنية حتى لحلفائه كما حدث لإيطاليا التي تركها شركاؤها في الاتحاد الأوروبي تواجه مصيرها بمفردها حيث أحكمت ألمانيا وفرنسا إغلاق خزائن أدويتها لصالح مواطنيها.
وأبرزت الجائحة أن الشركات المتعددة الاستيطان لا يهمها سوى مصالحها الاقتصادية والمالية، ولا تهمها المصالح الحيوية للشعوب ومنها المصالح الصحية التي وصل جشع الرأسمال إلى الضغط على الدول لرفع يدها عنه ليصبح مجالا يغرف منه الرأسمال الأرباح على حساب الصحة العامة، وفي زمن الحاجة إليها أخفت هذه الشركات رأسها حتى تهدأ العاصفة، ولم يظهر لها أثر في مواجهة الجائحة، إلا من أجل أن تضغط للاستفادة منها عن طريق جعل الحكومات تقرر الدعم المالي لصالحها. ونفس هذا التعامل المصلحي مع الجائحة قامت به المؤسسات السياسية والمالية والاقتصادية الدولية الراعية لهذه الرأسمالية المتوحشة وهذه العولمة، فصندوق النقد الدولي الذي أغرق شعوب العالم بديون تستفيد منها الكتل الطبقية الرأسمالية السائدة عالميا ومحليا وتؤدي الشعوب أقساطها على حساب تعليم أبنائها وصحتها و تقاعدها وسكنها وقدرتها الشرائية، هذا الصندوق لم يظهر له أثر حتى انتشرت الأزمة في الدول الرأسمالية المتنفذة فيه، ولن يكون تدخله إلا لاستغلال أزمة كورونا في المزيد من إغراق الشعوب بديونه ليزيد من إضعاف سيادة الدول الاقتصادية والمالية بعد توقف الجائحة، مما قد يجعل التنبِؤ باسترجاع الدور الحقيقي للدولة غير قابل للتحقق بفعل الجائحة وحدها.
نعم لقد أثارت الجائحة الحديث عن الدولة بالتنبؤ أن الفيروس سيهزم مبدأ الليبيرالية المتوحشة ” دعه يعمل، دعه يمر ” ليفسح المجال لصالح مبدا تدخل الدولة وعودة الدولة الوطنية، لتمارس أقصى مظاهر سيادتها. ولكن سوابق على هذا التدخل في أزمات سابقة، رغم اختلاف طبيعة الأزمة الحالية، والطبيعة الطبقية لهذه الدول، تطرح شكوكا حول الغايات القصوى من هذا التدخل ومداه الزمني ومجالاته، وما يلاحظ من نماذج هذا التدخل، ومنه النموذج الأمريكي هو الحفاظ بل تنمية مصالح الشركات المتعددة الاستيطان الامريكية، وما حدث في طريقة مواجهة الأزمة في الولايات المتحدة وفي البورصة الأمريكية مؤخرا دليل على ذلك.
لا شك أن الجائحة ستدفع إلى تغيير الموقف من العولمة والرأسمالية المتوحشة، لكن تغيير الواقع الذي تعيشه الشعوب زمن العولمة والرأسمالية المتوحشة، لن يتحقق إلا بنضال الشعوب من أجل تقرير مصيرها بيدها.
نشر هذا المقال بجريدة النهج الديمقراطي، عدد 354