الرئيسية » المخزن، الاستبداد و التبعية، وصحة الشعب في زمن كورونا

المخزن، الاستبداد و التبعية، وصحة الشعب في زمن كورونا

كتبه saad mertah

ح.أ

  تواجه الأنظمة البشرية (أنماط الإنتاج الاجتماعي شكل الدول القائمة) خلال تطورها منعطفات حاسمة ومؤثرة في مسارها التاريخي وخاصة منذ الثورة الصناعية الثانية  ودخول الرأسمالية مرحلة الامبريالية وتشكل الحركات الاشتراكية والتحررية عبر العالم، وفي كل منعطف حاسم طيلة قرن ونصف يكون الصراع على أشده بين الرأسماليات فيما بينها بهدف السيطرة على المجالات الحيوية للرأسمال الجشع والطامح للحفاظ على المنحنى الصاعد للأرباح تحت مسمى النمو الاقتصادي (المال – البورصات – المضاربات – الموارد)، هذا الصراع الذي قد يصل إلى مستوى الحرب المدمرة؛ فلا أحد اليوم يضمن أن لا تندلع مرة أخرى ما دام المنطق والجنون الرأسمالي/الامبريالي نفسه لا يزال يتحكم في العالم باعتباره سوقا للمنافسة الشرسة بين عتاة الاحتكارات العالمية وأجهزتها الدولتية (صناعة الرعب العسكري)، ومن جهة أخرى التهديد الذي يحدثه هذا التنافس الرأسمالي(المستنزف للموارد)للمنظومة البيئية التي يعتبر الإنسان نفسه أحد مكوناتها مما يهدد الوجود و الحياة نفسها.

  ومن جهة ثالثة ما يخلفه هذا “النمو بدون تنمية «من توحش اجتماعي وازدياد الفوارق الطبقية والمجالية، ومن نمو لا متكافئ بين دول المركز ودول الأطراف التابعة التي تظهر عليها كل أعراض التخلف من تفشي التفقير والتعطيل والتجهيل والاستبداد والعجز البنيوي لقطاع الصحة (الذي عرى فيروس كوفيد19 عوراته بشكل كامل) نتيجة سياسات التقشف والخوصصة المتنامية ومن تراكم للفشل في مواجهة هذه الوضعية بنفس آليات الاستبداد والفساد والتبعية.

  لقد شكلت المرحلة الممتدة من الثورة الاشتراكية بروسيا إلى نهاية الثمانينات بارقة أمل حقيقي للبشرية للتخلص من النظام الرأسمالي لكن عوامل موضوعية وذاتية، خارجية وداخلية فجرت تناقضات كامنة وسط الاشتراكيات المطبقة، فتراجع الأمل مؤقتا، وساد الظلام واللا أدرية والتشكيك في إمكانية أن تكون الاشتراكية المشروع المجتمعي البديل الوحيد القادر على فك تناقضات الرأسمالية وإرجاع السلطة والكرامة للطبقة العاملة وجماهير الشعب المنتج، ولإعادة صياغة المجتمعات على أسس تنظيمية ثورية جديدة كليا تلغي الاستغلال الطبقي والأنانية السائدة وتعيد التوازنات البيئية والمجالية وتوقف هدر المال والموارد في التسلح، وتقضي على الاستلاب الذي أحدثه نمط الاستهلاك الرأسمالي البشع والمدمر وتضع الإنسان بمفهومه الوجودي والطبقي في قلب إستراتيجية كل تنمية شاملة. 

  الحل في الأفق لهذه التناقضات لن يحصل بدون ثورة حقيقية في الأنظمة السياسية والاجتماعية والثقافية موجهة بكل الوضوح اللازم ضد النظام الرأسمالي وشروره (وليس فقط نحو أعراضه) التي أصبحت أكثر جلاء في عصر كورونا ومن أجل نظام جديد كليا (اشتراكية القرن 21).

  لقد عانت مجتمعات الأطراف ولازالت من هذه الهيمنة وهذا الاستقطاب البشع للتراكم الرأسمالي، خصوصا في ظل التغول العلني والمباشر للمؤسسات المالية العالمية وللدول الامبريالية، ويقابله الانصياع المذل والمهين لأنظمة دول الأطراف المستأسدة فقط على شعوبها.

  فكيف يعيش النظام المخزني المغربي في عصر كورونا؟ وهل هذا العدو (كوفيك 19) المتناهي في الصغر والمخترق لمختلف الطبقات الاجتماعية وغير الآبه بمختلف التراتبيات الاجتماعية من شأنه أن يغير الوضع السياسي والاجتماعي والثقافي في البلاد ويسهل إنجاز ما عجز عنه الصراع الطبقي الضاري نفسه منذ أكثر من 6 عقود من الزمن، ويساعد على القضاء على الاستبداد والفساد؟

  وهل هذا “التحدي الخارجي” عن حقل السياسة المباشرة سيوقف ما ترسخ من قوانين موضوعة لأنظمة اقتصاد السوق، وما نتج عنها من خوصصة للقطاعات الإستراتيجية وهل سينهي سياسات الاستغلال والاضطهاد الطبقي، وهل سيؤدي إلى إنهاء الصراع الطاحن الموجه ضد الطبقات المستغلة وضد التنظيمات السياسية والمدنية المعبرة عن مصالحها من طرف النظام المخزني؟

  إن هذه الجائحة (كوفيد 19) ستشكل بالفعل صعقة (مثل الصعقة الكهربائية للجسم)، ففي ظل الأزمات تزول المساحيق السياسية وتصبح الأنظمة عارية أمام الواقع ومسؤولة عن تبعات واقع بئيس كرسته لمدة عقود يتمظهر اليوم أكثر في قطاع الصحة، ويظهر في غياب التنمية المتمحورة حول الذات ويظهر في معضلة البؤس الاجتماعي المتراكم.

  فكما فاجأ الفيروس العديد من الدول المستهترة بتنمية الإنسان “أهم رأسمال في الوجود على حد تعبير كارل ماركس” فإنه أيضا عرى عجزها البنيوي وديماغوجيتها المسترسلة.

  فقد سعى المخزن كعادته إلى محاولة استعادة المبادرة للاستعمال السياسي للظرفية وتوارت الحكومة والبرلمان إلى المخبأ وانطلق العنان للعديد من الأصوات الرجعية واليمينية (الإسلامية والحداثية) من أجل وطنية مقلوبة وكأننا في حرب سياسية ضد عدو سياسي خارجي وليس أمام عجز وفشل ذاتي للسياسات الاجتماعية والصحية للدولة (يجب تداركه) ما فتئت القوى والحركات السياسية في المعارضة المناضلة الديمقراطية والتقدمية والحية في البلاد وكل الحراكات الاجتماعية تنبه وتطالب وتناضل وتقدم التضحيات الجسام من أجل تغييرها.

إن الوضع السياسي في البلاد أصبح يتسم عموما بما يلي:

– اختفاء الحكومة والوزراء وتراجع التصريحات الانتخابية الفجة خصوصا مع تصاعد وتيرة الكارثة الوبائية وظلالها المخيفة على الصعيد الدولي.

– محاولة تحويل الحجر الصحي إلى حجر أمني على المجتمع (الطوارئ الصحية إلى طوارئ أمنية وسياسية وإعلامية أيضا) والقيام باعتقالات تعسفية.

– غياب الشفافية في مواجهة الأوضاع واستمرار لغة الخشب والتهميش المطلق للرأي المعارض.

– عدم الإقدام على أية مبادرة سياسية للانفراج تتماشى مع الخطر المحدق بالجميع كإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وإطلاق حرية الرأي والتعبير للتنظيمات السياسية والمدنية المعارضة وتمكينها من وسائل الإعلام العمومية.

– محدودية الحلول الاجتماعية حيث رغم المبادرات لإحداث “لجنة اليقظة الاقتصادية” إلا أنها تفتقد لضمانات الشفافية والرقابة الشعبية على المال العام، ولا تضم في تمثيليتها ممثلي العمال والأجراء.

– عدم القدرة على فرض الحجر الشامل موضوعيا لتخلف البنيات التجارية والتسويقية والإعلامية والتعلمية ولغياب الحماية الاجتماعية للطبقات الكادحة (حركة العمال، طوابير أداء الفواتير، وسائل النقل، الأسواق…مثلا).

– خروج أصوات يمينية شاردة كارهة للشعب ومؤيدة لكل عمليات القمع وانتهاك حقوق الإنسان مروجة لدعاية مغلفة بشعارات مالتوسية مغرضة “الشعب المتخلف لا يليق به سوى الاستبداد والقمع !!!” والمستغلة لبعض الأحداث العرضية في المقابل أبان الشعب المغربي في الغالب على درجة من اليقظة العالية اتجاه خطر الفيروس واتجاه التوجهات السياسية الرجعية التي حاولت تحويل الحجر الصحي إلى مجرد حجر أمني واستعراض سلطوي، وفرض الرأي الوحيد للأمور ويظهر ذلك خصوصا من خلال تعبيرات وسائط التواصل الاجتماعي (سلطة مضادة).

كما أبانت القوى السياسية المعارضة للنظام عن نضج سياسي من خلال:

  • اعتبار أن الحجر الصحي حل اتبعته جميع دول العالم لحصار العدوى، وأن المغاربة مطالبين بالالتزام به إلى أقصى الحدود خصوصا وأن البنيات الصحية في بلادنا مهترئة جدا في الأوقات العادية فبالأحرى في مواجهة الوباء الجارف.

  • اعتبار أن انتقاد السياسات الرسمية في المجال التدبيري خلال الظرفية الاستثنائية هي مهمة القوى المعارضة وخاصة في مجال الصحة لتقوية البنيات الصحية وتخصيص ميزانيات استثنائية وتعميم مراكز التحليلات، والشفافية في المعطيات) وحقوق الإنسان (في مقدمتها ضرورة إطلاق سراح المعتقلين السياسيين) وحقوق الطبقة العاملة والكادحين (في مقدمتها تخصيص أجور كافية للمتوقفين عن العمل تحت ضغط القوة القاهرة، وللفاقدين لمصدر القوت اليومي) والنظرة الشمولية والاستشرافية لمواجهة الوباء.

  • مواجهة الخروج العلني أو المبطن ل «مستغلي مصائب الشعب” ومصاصي الدماء (charognards) من قطاع خاص جشع وطماع في موارد صندوق التضامن، والمطالبة بالتوقف عن سداد الديون وبتضريب الثروة وتأميم القطاعات الإستراتيجية.

  • استعمال وسائل التواصل الشعبي (الاجتماعي) في فضح التجاوزات والتضليل الإعلامي، وتعرية الواقع، وترسيخ قيم التضامن الفعلي وتكوين بعض مقومات السلطة المضادة.

  • المطالبة بجعل الإعلام في خدمة الشعب وإعطاء المعارضة المناضلة المدنية والحقوقية والسياسية حقها في التعبير في الإعلام العمومي. فالحجر الصحي لا يعني تكميم الأفواه وفرض الرأي الوحيد …

  إن عالم ما بعد كورونا لن يكون حتما هو عالم ما قبلها، فالكثير من الأنظمة ستتغير طوعا أو قسرا، أكيد لا يمكن التنبؤ بكل سيناريوهات وتفاصيل هذا التغيير، لكن يمكن التأكيد أن العديد من الألاعيب السياسية للأنظمة الفاشلة ستصبح جزءا من الماضي وأن الصعقة التي سيحدثها الفيروس ستكون أقوى من جيش من التعبئة الإعلامية التضليلية المتراكمة، وأن تغييرا جذريا سيمس العلاقات الدولية والعلاقة بين المجتمع والدولة والثقافة السائدة في كل بلد.

  إن النظام المخزني وسياسته اللاشعبية المتراكمة لمدة عقود ستكون موضوعيا أمام امتحان عسير خصوصا مع الفشل البنيوي للسياسات المراهنة على التبعية للنيوليبرالية المتوحشة للمؤسسات المالية وتوصياتها التي أوصلت البلاد إلى الحضيض على جميع المستويات وخاصة الاجتماعية منها، وأن الاختناق الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والصحي للبلاد أصبح يتطلب التغيير الجذري أكثر من أي وقت مضى لأن ذلك مرتبط بمصير شعب يحتاج إلى إستراتيجية للتمنيع خارج دائرة الليبرالية المتوحشة وخارج دائرة الاستبداد والفساد والخوصصة ويقتضي الإجبارية القانونية للمسائلة وعدم الإفلات من العقاب في العبث بالسياسات العمومية.

نشر هذا المقال بجريدة النهج الديمقراطي، عدد 354

قد تعجبك أيضاً

اترك تعليقًا