تابع المغاربة، نهاية هذا الأسبوع، الأعداد الغفيرة للشبان واليافعين الذين توجهوا إلى الشمال بغرض الهجرة الجماعية إلى سبتة المحتلة، استجابة لدعوات على منصات التواصل الاجتماعي، خصوصا “تيك توك”.
نتج عن تدفق هؤلاء الشباب صدامات قوية مع قوات الأمن بمختلف تشكيلاتها، مما خلّف إصابات في كل الصفوف، بينما كانت مدينة الفنيدق مسرحا للمواجهات والإضرار بالأملاك العامة، وعاش سكّانها ليالي غابت عنها السكينة العامة.
وقبيل ذلك، أجرت السلطات المغربية إنزالا أمنيا هائلا، لم يخلو من استعراض مسبق للقوة، وذكّرنا بالإنزالات التي شهدها الريف إبان الحراك، أو ما عاشته العديد من المغربية أثناء احتجاجات حركة 20 فبراير المجيدة.
الإسبان حبسوا أنفاسهم في انتظار اليوم “المشؤوم”، وهم يتذكرون برهبة التدفق الهائل لآلاف الشبان والأطفال سباحة نحو جيب سبتة المحتلة، منتصف 2021، حين كانت العلاقات بين البلدين الجارين مأزومة، وهو ما فهم منه الجميع حينها بأن الرباط لعبت الهجرة كـ “ورقة ضغط” لإخراج أصحاب القرار في مدريد من منطقة الراحة.
وبعد تمكن المغرب من انتزاع التأييد الإسباني في ملف الصحراء الغربية، تغيرت آليات التعامل الأمني المغربي مع تدفقات المهاجرين، خصوصا نحو سبتة ومليلية، وأصبحت أكثر تشديدا.
السلطات الإسبانية بدت سعيدة هذا اليوم بالتعامل المغربي مع “ليلة الهروب الكبير”، وقالت إلما سايز وزيرة الهجرة في حكومة بيدرو سانشيز إن المغرب يبذل “جهدا مهما للغاية” لوقف تدفق المهاجرين إلى سبتة.
وصرحت الوزيرة الإسبانية: “التعاون مع المغرب سلس ومريح للغاية، مع عمل استثنائي من قبل قوات وهيئات أمن الدولة والشرطة المغربية”.
أما الصحافة في شبه الجزيرة الإيبيرية فمدحت التدخل الأمني المغربي. وعنونت صحيفة “إلباييس” الذائعة الصيت، مقالا مطولا حول الأحداث بـ “درع الشرطة المغربية يعيد الهدوء إلى حدود سبتة”، وهي التوصيفات التي تسعد كثيرا المسؤولين الأمنيين المغاربة في الرباط، وبالتأكيد تشعر ناصر بوريطة بكثير من الارتياح.
وعلى عكس الرضى الذي عبرت عنه الأوساط الإسبانية، فإن المغاربة يتعصّرون ألما مما وصل به الحال بفلذات أكبادهم، والأوضاع الحقوقية والاجتماعية تدفعهم إلى مغادرة “أجمل بلد في العالم”، و الإلقاء بأنفسهم في البحر بحثا عن مستقبل أفضل.
يظهر العزم الذي أبدته السلطات المغربية في منع الشباب المغاربة من مغادرة البلاد التزامه بلعب دور الدركي الحامي للحدود الأوروبية، أو “الدرع” كما يستوهيه أن يوصف بذلك، مقابل بعض المكاسب الدبلوماسية الهشة وحزم التمويل الأوروبي الموجهة لتعزيز مراقبة الحدود وقمع المهاجرين، واتقاء شر الهيئات الأوروبية من توجيه انتقادات لاذعة للأوضاع الحقوقية في البلاد، كما حدث حين طالب البرلمان الأوروبي بإطلاق سراح الصحفيين المعتقلين في المغرب سنة 2023، وهو ما وضع المسؤولين المغاربة فوق النار.
وبينما ذهبت بعض الأوساط إلى ربط الأحداث الأخيرة بالوضع الاقتصادي الذي تعيشه مدينتي المضيق والفنيدق، إلا أن جل المعطيات تظهر بأن الإشكالية أعمق من ذلك بكثير.
صحيح أن مدينة المضيق ونواحيها تختنق من جراء إغلاق معبر سبتة منذ 2019، الذي كان مركزا لنشاط التهريب المعيشي الذي كانت تستفيد منه المنطقة، إلا أن سد هذا الشريان، لم تقابله بدائل تنموية مناسبة، وهو ما كان سببا رئيسيا لاندلاع احتجاجات واسعة في الفنيدق، سنة 2021، للمطالبة بـ “بديل اقتصادي”، ومنذ ذلك الحين، فشلت السلطات الحكومية في الوفاء بالتزاماتها، ومازالت المنطقة تئن تحت وطأة البطالة والفقر.
من ناحية ثانية، لم يعد من جبل الثلج ما يمكن إخفاؤه، فبعد أن قمع المخزن مطالب الشباب المغربي بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وقوبلت الحركة المعطلة بالعصى والآذان الصماء، ووضع قادة حراك الريف في السجن، وقمع حراك جرادة، وهي كلها حركات اجتماعية تطالب بتحسين الأوضاع الحقوقية والاجتماعية للشباب، وإيجاد بدائل تنموية تليق بالمغاربة، وتضمن التوزيع العادل للثروات، تكرّست حالة إحباط عامة في صفوف المغاربة، في ظل عدم اليقين، وتراجع القدرة الشرائية للأسر.
في الشهر الأخير، كشفت المندوبية السامية للتخطيط عن نسبة بطالبة مرعبة في البلاد، وصلت 13,1 في المائة خلال الفصل الثاني من السنة الجارية، وهو بالتأكيد رقم يخفي واقع أن نسبة العاطلين عن العمل أكبر من ذلك بكثير، إذا أخذت بعين الاعتبار المهن الهشة التي لا يمكن أن تكون سوى “بطالة مقنّعة”.
المندوبية أكدت أن معدل البطالة زاد بـ 2,5 نقطة في صفوف الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة، منتقلا من 33,6 في المائة إلى 36,1 في المائة، وبـ 1,6 نقطة في صفوف الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و34 سنة، منتقلا من 19,8 في المائة إلى 21,4 في المائة، بين الفترة نفسها من 2024 و2023.
أظهر العديد من الشبان الذين استجوبتهم الصحافة حول أسباب ذهابهم إلى الشمال بغرض مغادرة البلاد، وعيا ثاقبا بأسباب الأوضاع الاجتماعية والسياسية التي أدت بهم إلى الاقتناع بخيار رمي أنفسهم إلى البحر. من بين هذه الدوافع: “الحكرة”، وهو تعبير محلي يحيل على “القمع”، و”الشفرة” والذي يعني السرقة ونهب ثروات البلد والفساد.
أظهر استطلاع رأي حديث لجامعة برينستون الأمريكية أن 35 بالمائة من المغاربة يفكرون في الهجرة، نصفهم لا يمانع الهجرة حتى ولو لم يتوفر على وثائق رسمية، مبررين ذلك بـ “الوضع الاقتصادي الصعب” في المغرب.
أرقام أكدها البارومتر العربي الذي وجد أن 35 في المغاربة يريدون الرحيل عن بلدهم، 55 في المائة منهم تتراوح أعمارهم بين 18 و29 سنة.
وعد “النموذج التنموي الجديد” الذي أقيمت الدنيا من أجله ولم تقعد، بنسبة نمو سنوية تصل إلى 6 في المائة على أساس سنوي، وهو رقم استقبله حتى أكثر الاقتصاديين تفاؤلا بكثير من التشكيك والتحفظ.
بلغت نسبة النمو في العام الماضي 2,9 بالمائة، مقابل توقعات بأن لا تفوت 3,2 بالمائة هذا العام؛ يعني ذلك أن الاقتصاد المغربي سيستمر في إنتاج أكثر ما يبرع في إنتاجه: البطالة.
وعدت الحكومة بعد تشكيلها بخلق ما لا يقل عن مليون منصب شغل صافي خلال السنوات الخمس من ولايتها، غير أن الاحصائيات الرسمية تؤكد أن سوق الشغل المغربي ينزف، وبأن آلاف المناصب تتبخر.
بهذا تكون وعود الدولة المغربية مجرد كلام في الهواء، وفاقدا للمصداقية، لاسيما وأن دوافعه دعائية أكثر منها التزامات مسؤولة وحقيقية، وهو واقع يفهمه الشباب المغربي جيدا، وبالتالي فإن نسبا كبيرة منهم سيجدون أنفسهم مرغمين على اللجوء إلى خيار الهجرة.
يتغنى الحس المشترك المغربي بـ “أجمل بلد في العالم”، بناء على مزايا كثير منها خرافي ومتوهم، غير أن الواقع برهن أن الشباب بات بين فكي البطالة و”الحكرة” من جهة وآلة قمعية مسخرة لمنعهم من الهرب من جهة أخرى. ماذا سيكون هذا الوضع غير سجن كبير؟