94
آدم الروبي
في خضم الهجوم المنظم على التعليم العمومي، تتحول الجامعة المغربية من فضاء للنقاش والتحرر إلى ساحة لنزاعات دموية عبثية. المشاهد المروعة في وجدة والناظور وتطوان، حيث تتصاعد المواجهات بالسيوف وتُختطف المناضلون، ليست مجرد أحداث عابرة، بل تعبير عن أزمة بنيوية تخدم في العمق سياسة النظام القائم. فالعنف الفصائلي، الذي يُدار أحياناً بأيدي من يُفترض بهم الدفاع عن حقوق الطلبة، يصبح أداة لتفريغ النضال الطلابي من مضمونه، وتسهيل تمرير مشاريع الخصخصة تحت ذريعة “استعادة الأمن”.
العنف كأداة لتفكيك الحركة الطلابية: قراءة في تجربة وجدة
كما جاء في رسالة رفاق وجدة: “لقد آن الأوان لمراجعة جذرية لأساليب عملنا، فالعنف الذي كنا نعتبره وسيلة للدفاع عن مكاسبنا أصبح يُستخدم ضدنا”. هذه الرؤية النقدية تؤكد أن العنف الداخلي، سواءً كان مدفوعاً بخلافات سياسية أو هوياتية، يصبح ذريعة لتبرير تدخل الأجهزة الأمنية. ففي وجدة، حيث تم إغلاق مكتبة كلية العلوم “عقاباً” للطلبة بعد أحداث العنف، تحولت الجامعة من ساحة نضال إلى ساحة قمع مفتوحة.
وأضاف الرفاق: “لقد أدركنا متأخرين أننا بمواجهاتنا الداخلية لم نكن نضرب إلا أنفسنا، بينما العدو الحقيقي يمارس سياسة ‘فرق تسد’ ببرودة أعصاب”. هذه الاعترافات تظهر كيف أن التحويل للصراع من مواجهة سياسية إلى اشتباكات دموية يخدم في النهاية أجندة الدولة، التي تريد إفراغ الجامعة من أي دور تحرري.
الملتقى الطلابي ضد التطبيع: نموذج للتنسيق الطلابي الواعي
وسط هذا الواقع المشحون بالصراعات، يبرز الملتقى الطلابي ضد التطبيع، الذي احتضنه فصيل طلبة اليسار التقدمي بتعاون مع باقي الفصائل والقوى التقدمية (القاعديين التقدميين، شبيبات اليسار، …)، كنموذج مشرق لما يمكن أن يكون عليه الفعل الطلابي الوحدوي والواعي. لقد جسّد هذا الملتقى دينامية وحدوية، حيث انتقل النقاش من الصراع الفصائلي العقيم إلى قضايا وطنية كبرى، مثل مناهضة التطبيع والدفاع عن القضية الفلسطينية. هذا التنسيق أثبت أن الطلبة، حين يتحررون من النزعات الإقصائية، قادرون على إنتاج فعل نضالي وطني الطابع، عابر للحساسيات التنظيمية، ومرتبط بعمقهم الجماهيري وبقضايا الأمة.
أزمة الإطار وليست أزمة وعي فقط
يردد البعض أن ما نعيشه اليوم داخل الجامعة هو أزمة وعي طلابي أو مجرد نتيجة للهجوم المخزني. لكن الحقيقة أعمق من ذلك: إنها أزمة إطار. منذ فشل مؤتمر الاتحاد الوطني لطلبة المغرب الأخير أواخر السبعينات، عانت الساحة الجامعية من فراغ تنظيمي خطير، سمح بظهور كيانات فصائلية تقدم نفسها كأنها الإطار الشرعي والوحيد للطلبة، وتمارس نوعاً من الوصاية التنظيمية عليهم. هذا الوضع أفرز نوعاً من الريع الفصائلي داخل الجامعة، حيث تتحول المواقع إلى مناطق نفوذ، وتُمارس الامتيازات والخدمات الانتقائية على أساس الولاء لهذه المجيمعة الطلابية (الفصيل) أو أخرى أو هاته القبيلة أو الاخرى، ضاربة عرض الحائط النضال النقابي الذي تميزت به الجامعة المغربية عبر تاريخها.
لقد تحول غياب الإطار النقابي الجامع إلى أرضية خصبة لانتشار السلوكيات السلطوية داخل الحرم الجامعي، مما أدى إلى تهميش النضال الجماهيري الحقيقي، وتحويل القضايا الطلابية و الطلاب أنفسهم إلى رهائن في صراعات الفصائل. فبدل أن يكون الإطار وسيلة تنظيمية لتوحيد النضال، أصبح غيابه سببًا في تفكك الإرادات وغياب الثقة في العمل الجماعي. بل و اصبح عند العديد هذا الغياب يمثل اريحية لممارسة سلوكاته الريعية و ليس لديه أي قناعة لتغيير هذا الواقع الرث أو التفكير في اعادة النظر فيه او انتقاد تلك الممارسات. لقد بات أي انتقاد لها يقابل صاحبه بسيل من الشتائم كما حصل للرفاق بموقع وجدة من رفاق يفترض أنهم يحملون معهم نفس الأفكار ونفس الايديولوجية ؟!!!.
الخصخصة والتفكيك المنظم للتعليم العمومي: مقاومة مشتتة
في ظل غياب حركة طلابية موحدة وقوية، تتسارع وتيرة خصخصة التعليم العالي. فالدولة لم تعد تخفي توجهها نحو تقليص دعم الجامعات العمومية، وفرض رسوم غير مباشرة، والترويج للجامعات الخاصة. لكن هذا المسار لا يمر دون مقاومة، ولذلك يتم العمل على تفكيك أي إمكانية لتوحيد الصفوف الطلابية.
كما لاحظ رفاق وجدة: “بينما كنا منشغلين بصراعاتنا الداخلية، كانت إدارة الجامعة تفرض رسوماً جديدة وتقلص من الخدمات”. هذا الواقع يؤكد أن العنف الفصائلي يُبعد الجماهير الطلابية عن النضال الحقيقي، ويُنتج حالة من العزوف واليأس. فمن سيهتم بإضراب ضد ارتفاع رسوم التسجيل حين تكون الجامعة مسرحاً لاشتباكات يومية؟
المقاومة المشتتة: بين الإضرابات الانتحارية والصحوة النقدية
في رسالتهم، طرح رفاق وجدة سؤالاً مهماً: “كم من مناضل ضاع في معارك جانبية بينما القضية الأساسية تتراجع؟”. هذا السؤال يلامس جوهر الأزمة، حيث تُختزل النضالات في خطوات فردية غير مضمونة العواقب، مثل اضطرابات الطعام الانتحارية التي يخوضها مناضلون معزولون.
كما أشاروا: “لقد أدركنا أن البطولة الفردية لا تبني حركة جماهيرية”. هذه الرؤية تتعارض مع بعض الممارسات التي تُحَوَّل إلى أدوات للاستهلاك الإعلامي، بينما الجذور الحقيقية للأزمة – سياسة التفقير الممنهج وخصخصة التعليم – تُغيّب عن المشهد.
من النقد الذاتي إلى إعادة البناء: رؤية من وجدة
يقدم رفاق وجدة في رسالتهم مقاربة جديدة: “علينا أن نتحول من ثقافة المواجهة إلى ثقافة التنظيم، ومن خطاب التحدي إلى خطاب الإقناع”. هذه الرؤية تتطلب:
-
التخلي عن العنف كأداة صراع داخلي، كما دعا إليه رفاق وجدة: “لا يمكن أن نكون مناضلين حقيقيين ونحن نوجه سيوفنا ضد بعضنا”.
-
إعادة الاعتبار للعمل الجماهيري، حيث أكدوا أن “الطلبة لن ينضموا لحركة عنيفة، ولكنهم سينخرطون في نضال منظم يضمن حقوقهم”.
-
الربط العضوي مع الحركات الاجتماعية، كما جاء في الرسالة: “معركتنا مع الخصخصة هي نفسها معركة الأساتذة المتعاقدين والعمال المحتجين”.
-
فتح نقاش وطني حول إعادة بناء الإطار النقابي الطلابي على أسس ديمقراطية وجماهيرية ومستقلة، قادرة على احتضان مختلف الحساسيات الفكرية والسياسية داخل الجامعة.