الرئيسية » جيل Z والاحتجاج الرقمي : وعي طبقي جديد وغياب نسوي مؤجل

جيل Z والاحتجاج الرقمي : وعي طبقي جديد وغياب نسوي مؤجل

مقال رأي : نزهون جبل

كتبه User J
شهد العالم في الآونة الأخيرة تحولا جذريا أعاد تشكيل الهوية السياسية مع الثورة الرقمية، وكانت الأخيرة السبب المباشر في بروز فاعل اجتماعي جديد قلب موازين النضال الكلاسيكي، مما قطع الصلة بالمؤسسات وأنماط الاحتجاج التقليدية. فعلى سبيل المثال، برزت على المستوى العالمي منذ سنة 2010 موجة من الاحتجاجات الرقمية التي جمعت بين الفعل الميداني والافتراضي، بدءا من “الربيع العربي” مرورا بحركة “حياة السود مهمة” وصولا إلى “Me Too”. وما يميز هذه الحركات هو تقاطع الذوات الفردية مع الجماعية داخل فضاء افتراضي متحرر من القيود المؤسساتية التقليدية، في بيئة تتسم بالسيولة واللامحدودية، ما أحدث تحولا عميقا في طبيعة الكينونة الاجتماعية.
وقد انبثق هذا الفاعل الاجتماعي من رحم الرقمنة، فاتخذ من الفضاء الافتراضي ساحة للصراع الطبقي والرمزي في آن واحد، فقلب موازين النضال الكلاسيكي. بدوره، فتاريخيا عرف الشارع المغربي سلسلة من الحركات الاحتجاجية، كان أبرزها حركة 20 فبراير وحراك التعليم، وحراك الريف (…) وغيرها. ولا يمكن فهم الحركات الاحتجاجية الجديدة، المعبر عنها اليوم تحت مسمى جيل Z، بمعزل عن الإرث النظري للفكر الماركسي الذي ربط منذ الوهلة الأولى بين البنية الاقتصادية والاجتماعية وبين أشكال الوعي والممارسة. فالحركات الاحتجاجية ليست مجرد رد فعل آني على الظلم، بل هي نتاج لبنية مادية تنتج علاقات الهيمنة والاستلاب. ومن هذا المنظور، يمكن القول إن جيل Z يعبر بوسائل جديدة عن وعي طبقي متحول؛ وعيٍ لا يتجسد فقط في المصانع وساحات العمل، بل أيضا في الفضاء الافتراضي، حيث تتفاعل الطبقات الهشة والمهمشة. وهكذا انتقلت أشكال الصراع من المجال الاقتصادي المباشر إلى ما يسميه بيير بورديو “بالصراع الرمزي”، حيث تُعاد إنتاج الهيمنة عبر اللغة والصورة والتمثلات الإعلامية.
ويمكن قراءة هذه الحركات الاحتجاجية الجديدة، ولا سيما تلك التي يقودها جيل Z، باعتبارها امتدادا لتحولات عالمية بخصوصيات محلية. فمنذ حركة 20 فبراير سنة 2011، شهدت الساحة المغربية تحولاً في أنماط الاحتجاج، إذ انتقلت من المطالب الاجتماعية والاقتصادية المباشرة إلى موجة جديدة من الاحتجاجات الرقمية يَقُودُها شباب غير مؤطرين مؤسساتيا، يستخدمون الفضاء الافتراضي أداة للتعبئة والتعبير والفضح. فهذه الحركات لا تتحرك وفق تنظيمات تقليدية أو أيديولوجيات مغلقة، بل من خلال منطق أفقي عفوي ولا مركزي، ينسجم مع ما وصفه مانويل كاستلز “بقوة الشبكات”، التي أفرزت شكلا جديدا من المقاومة خارج البنية التنظيمية التقليدية.
ويكشف عمق الحركة التي يقودها جيل Z عن بنية اجتماعية متوترة، مليئة بالتناقضات بين رأس المال والعمل، وبين الواقعي والافتراضي، وبين السياسي والثقافي والجماعي والفردي. ولفهم أعمق لهذه الاحتجاجات، لا بد من تحليل البنية التحتية الاقتصادية والبنية الفوقية الأيديولوجية والسياسية. فجيلZ يعيش أزمة بنيوية للرأسمالية، تتجلّى في اقتصاد تابع قائم على الريع والديون، واتساع رقعة الهشاشة الاجتماعية والبطالة. وبالتالي، فإن مطالبه تعبر عن صراع متجدد بين العمل ورأس المال في صورته الحديثة، وعن تهديد للمنظومة الإنتاجية القائمة.
كما تشير نسب البطالة في صفوف الشباب والخريجين، التي تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة بنسبة 36.7%، بينما تبلغ بين حاملي الشهادات 19.6% سنة 2024، إلى أن رأس المال لم يعد قادرا على استيعاب القوى العاملة الجديدة، بل ينتج فائضا منها، تاركا للهامش مطالب مادية تعبر في جوهرها عن صراع على توزيع الثروة والموارد بين رأس المال السياسي والاقتصادي من جهة، والطبقات الشعبية من جهة أخرى.
وقد قوبل خروج جيل Z إلى الشارع باستجابة أمنية عنيفة، يمكن تحليلها في ضوء علاقة السلطة بالعنف المنظم. وهنا تطرح أسئلة جوهرية: من يملك العنف الشرعي؟ من يمارسه؟ ومن يحدد حدود استخدامه؟
في المقابل، يلاحظ أن أعمال الشغب التي ترافق بعض الاحتجاجات تُستعمل من قبل الدولة والإعلام الرسمي كذريعة لتفويض شرعية الحركة، واتهامها بالفوضى، وتبرير القمع الممارس ضدها، ما يضعف قدرتها على التعبئة والتجنيد.
وهذا النمط من التعامل ليس استثناء، بل سلوك متكرر في الأنظمة الرأسمالية التابعة، إذ كلما اتسع نطاق الاحتجاجات، سعى النظام إلى تشويهها أو اضطهادها بوصفها خطرا على “الاستقرار”.
(ألا يجدر بنا التساؤل هنا: أين العدالة لضحايا القليعة الثلاثة الذين سقطوا برصاص السلطة؟)
ورغم الحضور الميداني اللافت للنساء في المظاهرات والوقفات الأخيرة، إذ شكّلن درعا ميدانيا في مواجهة العنف الأمني، وعبّرن من خلال تصريحاتهن الرصينة عن المطالب المشروعة لجيل Z، إلا أن حضورهن ظل في الغالب جسديا أكثر منه سياسيا.
فهذا الغياب الرمزي للمرأة كفاعل منظم وكمكون قيادي يعكس اختلالا في الوعي الجمعي والأيديولوجي داخل الحركة، حيث تُستدعى المرأة كرمز في الصراع ضد التهميش، لا كصوت مستقل داخل بنية الصراع ذاتها.
ومن منظور ماركسي-نسوي، يكشف هذا الغياب عن حدود الحركة، فكما بينت ألكسندرا كولونتاي وسيلفيا فيديريشي، لا يمكن الحديث عن تحرر طبقي دون إدماج تحرر المرأة بوصفها جزءاً من القوى المنتجة.
فالعمل غير المأجور الذي تقوم به النساء في المنزل هو جزء من آلية إعادة إنتاج الرأسمالية ذاتها.
وبالتالي، فإن غياب المرأة كفاعل منظم يعني غياب جزء من القوة الثورية المنتجة للتحرر.
إن هذا الغياب البنيوي للمرأة كقوة فكرية وتنظيمية يعكس استمرار أنماط الهيمنة الاجتماعية ذاتها داخل الحركات الاحتجاجية، ويشير إلى أن الحركة لا تزال في طور الوعي العفوي: وعي بإدراك الظلم دون إدراك جذوره البنيوية. وفي المقابل، يلاحظ غياب بنيوي للتنظيمات النسوية ذات الخلفية اليسارية عن فضاءات الاحتجاج، مما أسفر عن فراغ تنظيمي واضح على مستويين:
أولا، على مستوى التأطير النظري والسياسي: إذ غابت هذه التنظيمات عن مهمة صياغة برنامج نضالي يربط المطالب الاجتماعية والاقتصادية للحركة بأجندة تحررية نسوية جذرية. فبدلاً من تحويل الاحتجاج العفوي إلى حركة ذات رؤية استراتيجية، ظل الخطاب الاحتجاجي يفتقر إلى ذلك البعد النسوي الذي يكشف عن القمع الطبقي.
ثانيا، على مستوى التأطير الحركي والميداني: إذ لم تستطع هذه المكونات بناء أطر نسائية قادرة على قيادة الحركة من داخلها، أو صياغة خطاب مضاد يمكنه تفكيك الآليات الأبوية داخل الحركة نفسها، والتي أعادت إنتاج المرأة كـ”درع بشري” أو كرمز، لا كفاعل مركزي في الصراع.
وهذا الغياب لم يكن حكرا على التنظيمات النسوية، بل شمل أيضا الأحزاب السياسية التقليدية التي قُصِر دورها على إصدار بيانات التضامن، من دون انخراط حقيقي في تأطير الجماهير المحتجة. وهذا المشهد يطرح إشكالية بنيوية تتجاوز التضامن الشكلي إلى سؤال الجدوى والوظيفة: أين تكمن القطيعة بين هذه المؤسسات والحركة الاجتماعية الجديدة؟ ولماذا فشلت في أن تكون رافعة للتغيير، وليس مجرد مشاهد عليه؟
رغم هذه الإشكاليات التي عرفتها الحركة فيما يخص المسألة النسائية إلا أنه بالرغم من ذلك شهد تطورا جزئيا فيما يخص حضور النساء في الاحتجاجات والتجسيد الميداني في الشارع. بحيث لوحظ الحضور القوي والكمي للمرأة في الشارع للاحتجاج ورفع الشعارات بشكل قوي وفي الكثير من الأحيان مبادرة العديد من النساء لقيادة الشعارات ميدانيا، يمكن الإشارة أيضا إلى كسر جدار الخوف للنساء عبر مواجهتهم مع السلطات والإبداعات الجديدة في اللافتات ورفعهن في وجه الأجهزة القمعية والاعتقالات التي عرفتها النساء كانت بنسبة كبيرة أيضا ورغم ذلك لم يكسرهم ذلك عن النضال. كما شهدنا أيضا دفاع المرأة على الشباب في الاحتجاجات لصد الاعتقالات، مما يشير إلى تطور جزئي في وعي المرأة من داخل الحركة رغم غياب التأطير السياسي إلا يشكل طفرة نوعية في الحركات الاحتجاجية في المجتمع والذي يمكن أن يساهم بشكل كبير في تطور حركة “جيل زيد” والذي يجب الاستثمار فيه بشكل إيجابي للحركة.
إن المطالبة بحقوق الصحة والتعليم داخل النظام الرأسمالي لا تتجاوز المطالبة بتصحيح وجه النظام لا بتقويضه. فالبنية الاقتصادية المغربية، الخاضعة لمنطق السوق والدين والخوصصة، لا يمكن أن تنتج عدالة اجتماعية، لأنها قائمة على تراكم الثروة لدى القلة واستغلال الأغلبية.
وبالتالي، فإن المطالبة بالحق في الصحة والتعليم دون مساءلة من يملك القطاعات ومن يستفيد من الخوصصة، هي مطالبة ناقصة. وكما قال ماركس: “ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، بل وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم”.
إن الوعي الإصلاحي السائد داخل هذه الحركة هو انعكاس لوجود اجتماعي هش، لشباب يعانون من التهميش والبطالة وضعف التعليم، لكنهم لم يبلوروا بعد مشروعاً لتغيير البنية التي تنتج هذا الواقع.
نخلص في الختام إلى أن مطالب جيل Z تندرج ضمن ما وصفه لينين “بالوعي النقابي الجماعي”؛ أي الوعي المطالب بالإنصاف داخل نفس البنية التي تكرس الظلم.
ولكي تتطور هذه الحركة الانتفاضية الجديدة، لا بد أن تعيد بناء ذاتها عبر التكوين الذاتي السياسي والفكري، وأن تستثمر الثورة الرقمية لا كفضاء للتعبئة فقط، بل كمدرسة للنضال والتعلم، حتى تتحول إلى قوة سياسية وشعبية تتسم بوعي اجتماعي نقدي قادر على إحداث التغيير من داخل الفضاء الرقمي الذي ولدت فيه.

قد تعجبك أيضاً