حمل إبراهيم ياسين في إحدى تدويناته الأخيرة النهج الديمقراطي مسؤولية فشل تجربة تجمع اليسار الديمقراطي للنهج الديمقراطي واتهامه بالتركيز على تأجيج الاختلافات مع باقي مكونات التجمع( التركيز على القضايا الخلافية، حملات مقاطعة الانتخابات التي كان يقودها كانت موجهة أساسا إلى الجمهور المتعاطف مع تحالف اليسار الديمقراطي…).
وخلافا لذلك فإن النهج الديمقراطي لم يطرح أبدا القضايا الخلافية في اجتماعات الهيئة التنفيذية لتجمع اليسار الديمقراطي وكان يؤكد على عدم الاحتكاك مع مناضلي مكونات التجمع الأخرى المشاركة في الانتخابات معتبرا أن الحملة لحظة ستمر ولا يجب إن تؤثر على العمل المشترك. وقد كانت بعض العناصر المتنفذة في اليسار الاشتراكي الموحد التي تمثله في الهيئة التنفيذية لتجمع اليسار الديمقراطي(لم يكن إبراهيم ياسين ضمن أعضاء الهيئة)، هم الذين كانوا يركزون على القضايا الخلافية ويسعون إلى جر النهج الديمقراطي إلى دائرة الاستسلام للمخزن، وعبروا عن ذلك بشكل قاطع وواضح في اجتماع المكاتب السياسية الذي عقد لنقاش حضور اليسار في حركة 20 فبراير.وكانوا قد تدخلوا بقوة من أجل إفشال عمل توافقي أولي ولكن هام أنجزه الفريق الدستوري لتجمع اليسار الديمقراطي حول المطالب الدستورية المشتركة لمكوناته بدعوى ضرورة التنصيص على شكل النظام السياسي. ولما تبين لهؤلاء الممثلين استحالة ذلك، عمدوا إلى تجميد تجمع اليسار الديمقراطي.وظلت محاولات النهج الديمقراطي العديدة لتفعيل عمل تجمع اليسار الديمقراطي تواجه بالتسويف والمماطلة وطرح ضرورة النقاش والاتفاق على القضايا الخلافية (شكل النظام المنشود، الصحراء، الانتخابات). وكأن الهدف الحقيقي من تشكيل تجمع اليسار الديمقراطي لم يكن، بالنسبة لهؤلاء، تقوية وتوسيع العمل النضالي المشترك لليسار بقدر ما كان السعي الحثيث لتطويع وترويض النهج الديمقراطي. إن تأسيس تجمع اليسار الديمقراطي قد تم في ظل هذه الاختلافات، لكن لم يبدأ طرح اشتراطات حول الصحراء وشكل النظام والانتخابات للقيام بأي عمل مشترك(أي عمليا إقبار تجمع اليسار الديمقراطي)إلا مع انطلاق حركة 20 فبراير. فماذا تغير حتى تتحول الخلافات إلى اشتراطات؟ ماذا تغير حتى تصبح هذه المواقف خطا أحمرا بالنسبة للتوجه المتنفذ في قيادة فيدرالية اليسار الديمقراطي، وخاصة الحزب الاشتراكي الموحد؟
وما هو الموقف الجديد للنهج الديمقراطي الذي أغضب هذا التوجه إلى حد إعلانه وممارسته القطيعة مع النهج الديمقراطي؟
لعل التدوينة الأخيرة لإبراهيم ياسين تكشف المسكوت عنه في هذا الموقف كما كشفت السبب الحقيقي وراء الموقف العدائي لهذا التوجه إزاء النهج الديمقراطي.
إن تدوينة إبراهيم ياسين الأخيرة وتصريحات أحد أبرز ممثلي هذا التوجه المتنفذ في قيادة الحزب الاشتراكي الموحد الذي صرح، غير ما مرة وعلى رأس الأشهاد، ما يلي: "إننا لسنا ضد المخزن" تكشف النقاب عن السبب الحقيقي لكل هذا العداء للنهج الديمقراطي.
إن النهج الديمقراطي، واستفادة من دروس حركة 20 فبراير وما وصلت إليه الديمقراطية المخزنية من انحطاط تؤكده مهزلة تشكيل الحكومة الحالية وفي محاولة للتصدي لسياسة "فرق تسد" التي يتقنها المخزن،ورغبة منه في تصعيد النضال من أجل الديمقراطية والكرامة والحرية وضد الاستبداد والفساد، قد تبنى في مؤتمره الأخير ضرورة بناء جبهة موحدة لإسقاط المخزن، ودعا بالتالي إلى حوار عمومي،وجبهة ميدانية بين كل القوى الحية، بما فيها قوى الإسلام السياسي غير التكفيرية وغير الممخزنة.
أما توجه هذه العناصر المتنفذة في قيادة الحزب الاشتراكي الموحد، فتكتيكه وخطه السياسي على طرف نقيض لتكتيك وخط النهج الديمقراطي:
• إنه لا مشكل له مع المخزن في إطار إيديولوجية التوافق والانتقال الديمقراطي التي أبانت تجربة ما سمي ب"التناوب التوافقي" إفلاسها ودورها التخريبي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بل هو متحمس إلى أقصى حد للمشاركة ولتزكية مؤسسات النظام التمثيلية الصورية والمزيفة والمكرسة للاستبداد والحكم الفردي المطلق والفساد والاستغلال المكثف، ولو كانت رمزية ولا تسمن ولا تغني من جوع؛ وهو يروج لوهم إصلاح المخزن من خلال العمل في هذه المؤسسات، رغم أن أكثر من نصف قرن من "الديمقراطية"المخزنية، وكون تواجد ونضال أحزاب شعبية وقوية في هذه المؤسسات قد أدى إلى تمخزن هذه الأحزاب عوض أن يؤدي إلى دمقرطة هذه المؤسسات. فلا يمكن محاربة الفساد والاستبداد بأدوات يعشش فيها الفساد والاستبداد. ولا يمكن للمافيا المخزنية التي تحتكر السلطة وترتكب الجرائم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية أن تقبل بالديمقراطية الحقيقية التي تعني، من بين ما تعني، انتخاب المسئولين وربط المسئولية بالمحاسبة وعدم الإفلات من العقاب.
• وهذا التوجه لا يريد تصعيد النضال ضد الاستبداد والفساد الذي يتطلب بناء أوسع جبهة لكل القوى السياسية والنقابية والاجتماعية والمجتمعية المتضررة من استبداد وفساد المافيا المخزنية. ويبرر موقفه ذاك بالخوف على استقرار البلاد. وهو بذلك يعبر عن خوفه من غضب الشعب واستكانته للاستبداد والفساد.
• من خلال اشتراطاته التي أضاف لها إبراهيم ياسين اشتراطا آخر،المتمثل في رفض أي تعامل مع أية قوة من الإسلام السياسي؛ وهنا انكشف المستور والوظيفة التي تكلف بها هذا التوجه اليميني المتنفذ في قيادة الحزب الاشتراكي الموحد. إنها السعي إلى ترويض القوى المناهضة للاستبداد والفساد الذي يجسده المخزن، أكانت يسارية أو إسلامية، ومحاربتها إن لم يستطع ذلك. أليست هذه الممارسة استمرارا لما طرحته الرسالة التي كان محمد بنسعيد آيت يدر قد أرسلها لإدريس البصري وسبق أن نشرتها جريدة النهج الديمقراطي(+)؟ وهل دور ومهمة اليسار المناضل، الآن وهنا، هو وضع محاربة قوى الإسلام السياسي، بما فيها غير الممخزنة وغير التكفيرية، على رأس أولوياته خدمة لأجندة صديق الملك الذي كان قد تخلى عن مناصبه الرسمية ليتفرغ لهذه المهمة وشكل حزبا خصيصا للقيام بهذا الدور؟ وهل التناقض الرئيسي، الآن وهنا، هو مع المخزن أم مع الإسلام السياسي؟ وهل شعبنا، عندما انتفض في إطار حركة 20 فبراير، طالب بإسقاط الاستبداد والفساد الذي تمثله المافيا المخزنية أم بإسقاط الإسلام السياسي؟ وهل الإسلام السياسي هو الذي يحتكر السلطة والثروة ويمارس كل أشكال الاستبداد والفساد أم هي المافيا المخزنية؟
رغم اختلافنا مع خط التوجه المتنفذ في قيادة الحزب الاشتراكي الموحد، فان النهج الديمقراطي سيواصل عمله الدؤوب من اجل بناء الجبهة الديمقراطية، التي يشكل اليسار عمودها الفقري، على القواسم المشتركة الكثيرة، لقناعته التامة بأن هناك العديد من المناضلين والمناضلات اليساريين( ات) والديمقراطيين( ات) الذين يريدون خوض الصراع ضد المخزن ومن أجل الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية بدون اشتراطات وبدون ابتزاز لأي طرف مناضل.
عبد الله الحريف
(+)بعث محمد بنسعيدآيت يدر هذه الرسالة الطويلة، سنة 1996، لوزير الداخلية إدريس البصري ونشرتها جريدة "النهج الديمقراطي" في العدد 96 بتاريخ يوليو 2002، نقتطف منها الفقرات التالية:
"إن الموقف( أي موقف النظام) من منظمة العمل الديمقراطي الشعبي جوهري وأساسي لتغيير وجهة نظر أطراف أخرى من اليسار الجديد من الوضع السياسي. فكلما تمكنت المنظمة من تحقيق إنجازات في المشاركة في الحياة السياسية، كلما شجع ذلك قوى اليسار الجديد للانخراط الواسع في المسلسل الديمقراطي".
"وإن منظمة العمل الديمقراطي الشعبي تشكل قنطرة العبور المساعد لمكونات اليسار الجديد للانخراط في العمل الشرعي".