الرئيسية » حسين بنعيسى: الأسس النظرية والسياسية للموقف من إيران

حسين بنعيسى: الأسس النظرية والسياسية للموقف من إيران

كتبه saad mertah

تعيد إدارة الموقع الرسمي لشبيبة النهج الديمقراطي نشر مقال للرفيق حسين بنعيسى نشر بصفحته بالفايسبوك يوم الاثنين 6 يناير حول التطورات الدولية الأخيرة 

**********************

استيقظ العالم قبل يومين على حدث مدو: اغتيال الفريق قاسم سليماني أبرز جنرالات “حرس الثورة” الإيراني والذي يصنفه البعض كثاني أبرز رجل في إيران بعد المرشد الأعلى. سليماني كرس أربعين عاما من حياته لتعزيز القدرات القتالية والعسكرية لأصدقاء إيران بالمنطقة العربية، في سوريا ولبنان والعراق وفلسطين واليمن.. وتشهد له جل فصائل المقاومة الفلسطينية على دوره الكبير في دعم المقاومة الفلسطينية ضد الكيان الصهيوني، وعلى خططه العسكرية المحكمة لتطويق الكيان بالصواريخ من ثلاث جهات (غزة ولبنان وسوريا)، وعلى دوره في حرب تموز 2006 بين لبنان وإسرائيل، ودوره في الحرب الأخيرة على سوريا، وما سمي الحرب ضد “داعش” في العراق..

تغتال الو.م.أ إذن رجلا بهذا الوزن والتأثير، وتجهر بهذا الاغتيال أمام كل شعوب الأرض، وتدخل المنطقة برمتها مرحلة مفتوحة على جميع الاحتمالات، وينتشر الخبر كالنار في الهشيم على مختلف منصات التواصل الاجتماعي، وحين تبحث عن موقف القوى التقدمية مما يجري، وبدل أن تدفئك بلاغات الإدانة والتنديد بهذه الجريمة الأمريكية المتكاملة الأركان، تصدمك مجددا تلك المواقف المعتادة التي صارت تزكم رائحتها الأنوف: اللهم اضرب الظالمين بالظالمين وأخرجنا منهم سالمين!!! فكيف اختفى من قاموس الممارسة السياسية للقوى التقدمية موقف التنديد بالغارات الإمبريالية والصهيونية على المنطقة، لصالح الصمت المخزي والقبول الفظيع “بالحياد” بل والتصريح به؟ لا بد أن الأمر تطلب سنين من التطويع حتى نصل إلى مرحلة كهذه، لكننا وصلناها على كل حال: الكثيرون لم يفقدوا البوصلة وحسب، بل والذاكرة أيضا!

إبان الثورة الإسلامية في إيران، صعدت أقسام من البرجوازية الصغرى الإيرانية إلى السلطة، سيطرت على جهاز الدولة، وباشرت تصفية آلاف الشيوعيين من قيادات وطلائع الطبقة العاملة، والتي كانت وقود الثورة الإيرانية المجيدة. فهل هذه الواقعة التاريخية تشكل لذا بعض المتمركسين سببا كافيا لرفض أي مساندة للنظام الإيراني أو التقاء معه؟ حتى لو تعلق الأمر بالاعتداءات الأمريكية؟! إنه قصر نظر لم يعد يطاق، وسحنة حقوقية وشعبوية ضيقة وباهتة تغيب فيها الرؤية العلمية للصراع، لصالح أوهام إديولوجية خطيرة باتت تخفي أشد المواقف السياسية خيانية ورجعية!!!

تسعى هذه المقالة إلى إعادة رسم خارطة الصراع، وإعادة ترتيب الأولويات والتذكير بالأعداء والأصدقاء، وبالتالي المساهمة في تكوين موقف سياسي واضح وصريح، غير متردد أمام الانعطافات السريعة والمستجدات الطارئة. موقف يضح حدودا فاصلة حاسمة بين خندق حركة التحرر الوطني، وخندق الامبريالية والصهيونية والرجعيات العربية، خاصة وأن المنطقة والعالم مقبلين على تحولات حاسمة في الأسابيع والأشهر القادمة.

الأمة الإيرانية والامبريالية:

استمرت الفئة الجديدة التي صعدت إلى السلطة في التبلور كبرجوازية دولتية، وضعت تطور الأمة الإيرانية على سكة معادية للامبريالية، وحددت مصلحتها في بناء اقتصاد وطني مستقل خلافا للبرجوازيات الكولونيالية ذات الطابع التبعي وفق القواعد الليبيرالية. من هنا كان لهذه البرجوازية الدولتية أدوار وطنية في جل ما يتعلق بالصراع مع الامبريالية، ذلك أنها قيادة للأمة الإيرانية، وهذه الأمة مضطهدة في التقسيم الدولي للعمل، وتبلور برجوازيتها كبرجوازية دولتية لا كبرجوازية كمبرادورية هو الذي وضعها في مواجهة الامبريالية، وبقدر ما لهذا التبلور من نتائج فإن له جذورا كذلك. على هذه الأرضية فقط يمكن فهم اتجاه البرجوازية الدولتية الإيرانية الدائم إلى التسلح والدفاع عن الأمن القومي والتصعيد تجاه الغرب الامبريالي. (يمكن العودة إلى سمير أمين بصدد مفهوم البرجوازية الدولتية خاصة كتاب التطور اللامتكافئ)

الأمة الإيرانية أمة مضطهدة، تماما كالأمة العربية، لكن مع فوارق جوهرية، فالأمة العربية مزيج من شعوب وازنة عدديا وممتدة على خريطة شاسعة، ذات إمكانات وثروات ومقدرات تفوق بكثير نظيرتها الإيرانية، والأمة العربية من حيث الإمكانات لها وزن يفوق إيران بكثير، ولا يمكن مقارنته إلا بأمم وازنة بحجم الصين أو روسيا، أمم إذا ما نهضت لا تصير الامبريالية أمامها سوى “نمرا من ورق” بتعبير ماو. إن التقسيم الامبريالي الذي تعانيه الأمة العربية إلى دويلات مصطنعة، هو الذي يخفي هذا الفرق بين البلاد العربية والإيرانية من حيث القوة، لكن هذا الفرق يكتسب أهمية لا يمكن تجاهلها على صعيد الصراع العملي، وهذا ما تفهمه إيران جيدا، وحتى إن لم تفهمه فهي تعمل به.

هكذا تجد الأمة الإيرانية نفسها (في شخص قيادتها طبعا) مدفوعة موضوعيا إلى الاعتماد على قوى هنا أو هناك في المنطقة العربية، فالتحرر الوطني للأمة الإيرانية رهين استراتيجيا بالتحرر الوطني للأمة العربية، وهذا قانون مستقل لا يفسر بالوعي الإديولوجي لهذا الاندفاع (وأقصد تحديدا التشيع) بل يرجع لعوامل جغرافية واقتصادية وجيوسياسية وتاريخية لا مجال هنا للتفصيل فيها، عوامل وضعت الأمة الإيرانية أمام ضرورة تاريخية في الاعتماد على نظيرتها العربية. أما التشيع فلا يعدو أن يكون إديولوجية هذه الضرورة لما تكون برجوازية دولتية على رأس الأمة، ولذلك بدوره أسباب وامتدادات إديولوجية ونفسية عميقة، ترتبط بمسار طويل من الصراع الطبقي داخل البلاد العربية الإسلامية على امتداد قرون خلت، فالتشيع شكل تاريخيا أحد أشكال المعارضة السياسية للاستبداد الخراجي السائد، ولا تخلوا هنا واقعة الحسين في مواجهة الأمويين من دلالات (يمكن بهذا الصدد مراجعة كتاب النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية لحسين مروة). لذلك يمكن اعتبار التشيع نفسا إديولوجيا قويا لنسج رابطة سياسية متينة مع قوى معارضة في الداخل العربي، مع أنه لا يعبر عن كل التحالفات التي تنسجها إيران في المنطقة.

داخليا فإن إيران كأي مجتمع تنقسم إلى طبقات، والصراع الطبقي هو الذي وضع طبقة معينة في قيادة الأمة الإيرانية، فحين يشتد الصراع الطبقي داخليا فإن التناقض الرئيسي هو بين الشعب كقطب طبقي مستقل تتقاسم كافة الفئات والطبقات المشكلة له واقع الحيف والاضطهاد الاجتماعيين، وبين التحالف الطبقي المسيطر الذي تهيمن فيه الطبقة البرجوازية الدولتية الإيرانية. أما حين يشتد الصراع الطبقي خارجيا، أي بين الأمة الإيرانية ككل، وبين الامبريالية والصهيونية والرجعيات العربية، فإن “التناقض الرئيسي يتحول إلى تناقض ثانوي” (ماو) مقارنة بالتناقض بين الامبريالية والأمة الإيرانية، ومفهوم الشعب يتسع ليشمل كل القوى ذات الاتجاهات الوطنية بما فيها النظام الإيراني، نعم النظام الإيراني، ولا يعني هذا انتفاءا للصراع الطبقي، بل شكلا من أشكاله: تذكروا أن صراع الأمم هو صراع طبقات تقود هذه الأمم، وأن الامبريالية نفسها ليست سوى مرحلة تبلور طبقة سياسية تحكم العالم بأسره، الطبقة التي سماها لينين بالطغمة المالية. إن النضال الوطني هو الإطار الذي يدور في رحاه النضال الطبقي في المجتمعات الطرفية.

إذا أردنا تنزيل هذا التحليل النظري إلى مواقف سياسية، فإن موقف الشيوعيين ينبغي أن يكون كالتالي:

+ دعم ومساندة الأمة الإيرانية، قيادة وشعبا، عند كل عدوان امبريالي، وكل تردد أو تلكؤ تجاه هذه المسألة الحاسمة، لا بد أن يفقد الممارسة السياسية للطبقة العاملة بعدها الاستراتيجي، وأن يجعل من موقفها ذيليا للامبريالية.

+ دعم ومساندة الشعب الإيراني متى استعر نضاله ضد النظام، لكن مساندة ثورية تتخذ موقفا نقديا تجاه الخطوط والشعارات السياسية الرائجة خاصة الليبيرالية، فغاية الشيوعيين استثمار الضغط الشعبي لتجذير دور وموقع الأمة الإيرانية من الصراع الإقليمي والعالمي، لا تصفية المكتسبات العسكرية والاقتصادية والسياسية الوطنية لنظام إيران، واستبداله من جديد بنظام ذيلي للامبريالية كنظام الشاه السابق.

+ إدانة كل أشكال القمع والاستبداد والحيف التي يمارسها النظام ضد الشعب الإيراني مهما كانت أدواره الوطنية محط إشادة، والضغط عليه متى سمحت الظروف بالتجاه دمقرطة المجتمع والإنصياع لمطالب الحركة الجماهيرية.

+ المطالبة بإسقاط النظام الإيراني متى تبلورت قيادة أكثر جذرية ووطنية للأمة الإيرانية، ومتى اندفعت الطبقة العاملة وحلفاؤها لاستلام السلطة، وفي غياب ذلك الاكتفاء بتوضيح الحدود السياسية والتاريخية للأدوار الوطنية للنظام الإيراني.

إن هذه المواقف هي الترجمة الفعلية للأطروحة العلمية التي ترى بأن التقدم في إنجاز مهام التحرر الوطني لا يتحقق إلا بالإشراك التام للجماهير الشعبية (المهام الديمقراطية) وتثوير القوى المنتجة (الانتقال إلى الاشتراكية).

المواقف أعلاه صالحة كذلك للتعامل مع أقسام البرجوازية والبرجوازية الصغرى التي تلعب أدوارا وطنية معادية للامبريالية في المنطقة العربية، وهي القوى التي ستجدها غالبا حليفة لإيران، وذلك ليس مصادفة: كحزب الله في لبنان، أنصار الله الحوثي في اليمن.. ويمكن تمديدها لتطال قوى غير شيعية كالنظام السوري والفصائل الفلسطينية المقاومة.. فالتشيع كما أسلفنا الذكر هو تعبير إيديولوجي عن الارتباط السياسي، لكنه ليس التعبير الوحيد. ولا بد من إضافة ضرورية تتعلق بانتماء هذه القوى للأمة العربية لا الإيرانية، ووحدة مصير الأمتين ووحدة عدوهما وتجاورهما الجغرافي.. كل ذلك لا يجب أن ينفي التمايز والتمفصل بينهما.

المنزلق الإديولوجي لنظرية “صراع المحاور”:

عودة إلى التحديدات النظرية، فبقدر ما يبدوا هذا التحليل متشعبا ومعقدا، بقدر ما ينجلي الغموض ويتضح شيءا فشيءا الحل النظري وبالتالي السياسي لواحدة من أعقد المسائل المطروحة أمام الشيوعيين العرب: ما الضير في أن ندعم الشعب الإيراني ضد الدولة الإيرانية، والدولة الإيرانية ضد الامبريالية؟ هل يبدو ذلك موقفا متناقضا؟ هل يمكن أن نكون ضد دولة ما ومعها في نفس الوقت؟ لا ضير في نظري إلا إذا كنا نحلل الوضع الاقليمي والعالمي انطلاقا من نظرية “المحاور” الرائجة كثيرا هذه الأيام في المجال الإعلامي، والتي تضع المتأثرين بها أمام خيارين: إما الاصطفاف في “محور” من المحاور المتصارعة، وإما التبرؤ لفظا من أي “محور”، أي الحياد باسم الدفاع عن “الشعب”. ولا بد من الإعتراف بأن نظرية المحاور هذه تخلق في الأوساط اليسارية بلبلة وتذبذبا شديدين، فالقول بصراع المحاور يخفي غالبا الاختلاف النوعي بينها، فتبدوا جميع “المحاور” كيانات هيجيلية مختلفة في المواقع فقط، بينها صراع على نفس المصالح والأهداف، وهو صراع “لا شأن لنا فيه”، يكفي الانحياز إلى “الشعب”، لأن مصلحة الشعب لا توجد في أي “محور”. نظرية المحاور هذه مضللة، إذ تضع جميع اللاعبين على صعيد واحد: فلا فرق بين روسيا وأمريكا، بين الصين وفرنسا، بين “محور المقاومة” و”محور تركيا قطر” و”محور السعودية إسرائيل”.. هكذا يختفي التناقض الرئيسي بين مركز المنظومة العالمية وأطرافها، ليحل محله تحليل سطحي مغرق في الفوضى: محاور تآمرية مجردة تتصارع لتحقيق “مصالحها” و”أجنداتها” المبيتة.

لكن إذا استعنا بالنظرية الماركسية، إذا نظرنا إلى الدولة كجهاز، كأداة لممارسة الصراع الطبقي، ووقفنا بالتدقيق عند التمفصل بين الطبقة والأمة، بين النضال الطبقي والنضال الوطني، يتضح أن جهاز الدولة ليس صنما يجب إدانته بمجرد سماع إسمه، لقد رفض ماركس بشدة هذه النزعة الفوضوية، والتي صار لها صدى كبير في صفوف اليسار العربي اليوم، فالبعض لا يخجل من عدم التنديد بعدوان أمريكي فقط لأن المستهدف “دولة”، “نظام”، وكل تقاطع مع “نظام” في منطق هؤلاء المتمركسين هو موقف رجعي، وقد رأينا كيف جعلت هذه النظرة أقساما واسعة من اليسار مترددة كثيرا في الموقف من النظام السوري في واحدة من أخطر وأعقد المراحل التي مرت بها حركة التحرر الوطني في تاريخها المعاصر وأقصد الحرب الأخيرة في سوريا.

ما الدولة في الحقيقة إلا أداة للممارسة السياسية، وهذه الممارسة تتم بطبعها على الصعيدين الطبقي والوطني في آن، أي أن التناقض في أدوار الدولة البرجوازية (الإيرانية مثلا) بين كونها أداة سيطرة طبقية من جهة، وأداة خوض للصراع ضد الامبريالية من جهة أخرى، هو تناقض في صميم التكون التاريخي لهذه البرجوازية، أي في تركيبتها الطبقية والبنيوية، وليس تناقضا في الموقف السليم الذي يؤيد هذا الدور ويندد بذاك. وقد عالج مهدي عامل هذا التناقض في ممارسة البرجوازية الكولونيالية بما يكفينا ضرورة التفصيل فيه، (راجع مقدمات نظرية)، ولا نرى حرجا في مساندة دولة ما، أي نظام سياسي ما، إذا ما كان الوضع الملوموس يضعه في لحظة تاريخية معينة ضمن الجبهة الثورية المعارضة للامبريالية.

التطور اللامتكافي: ما موقع روسيا والصين؟

إن هذا الدور المتناقض يجد أساسه عميقا في طبيعة قانون التطور اللامتكافئ للرأسمالية، والذي مكن البرجوازيات الصاعدة في مراحل تاريخية معينة من تشكيل مراكز المنظومة العالمية، وبالتالي منع صعود غيرها، أي وضع برجوازيات قومية أخرى في موقع وسطي متناقض في هرمية التقسيم الدولي للعمل، فلا هي قادرة على التشكل كمركز للمنظومة ولا هي قادرة على التخلي عن موقعها في السلطة، وفسح المجال لتحالف العمال والفلاحين، والذي وحده يحمل في صيرورته مشروعا مجتمعيا قادرا على تحطيم المنظومة عبر تحطيم علاقات الإنتاج الرأسمالية نفسها. وهذه الأطروحة المهمة التي صاغها سمير أمين، هي المدخل التفسيري الوحيد لفهم الحركة العامة للتاريخ في عصر الامبريالية، وموقع الدول، الطبقات، الأمم في هذه الحركة.

هو كذلك مدخل تفسيري لاغنى عنده لتقييم مآل “المعسكر الاشتراكي”، وحركات التحرر الوطني، والدور الذي تلعبه اليوم بلدان كالصين وروسيا.. والتي أعارض بشدة توصيفها “كإمبرياليات” أو حتى “إمبرياليات صاعدة”، وأعتبر هذا التحديد خطأ منهجيا فادحا، وذا عواقب استراتيجية وخيمة: إن الدور الروسي والصيني في العالم المعاصر، لا يفسر بثغرة أو تصدع في صفوف الطبقة الامبريالية، ولا بطبقة صاعدة تزاحم نظيرتها بنفس الخصائص البنيوية والتركيبية (لنلاحظ هنا الانزلاق النظري في النظر إلى التناقض بعين هيجلية تماثلية)، بل يتعلق الأمر ببلدين دشنا مرحلة الانتقال إلى الاشتراكية بقيادة الطبقة العاملة لتحالف واسع يضم ملايين الفلاحين والمثقفين، انتهى إلى فقدان الطبقة العاملة للهيمنة السياسية في التحالف، وصعود كوادر البرجوازية الصغرى إلى قيادة حركة الانتقال تلك، مما غير مسار الحركة نحو رأسمالية دولتية، تقودها برجوازية دولتية مختلفة جوهريا عن البرجوازية الأروبية الصاعدة التي شكلت النواة الطبقية للطغمة المالية المسيطرة على النظام العالمي.

والوقوف عند الفرق بين البرجوازيتين حاسم، فبرجوازية المركز أثناء طورها الصاعد، قامت بتطوير القوى المنتجة، وصفت العقبات الإقطاعية التي كانت تعترضها، وألحقت بها مستعمرات شاسعة، وانتهت إلى التربع على رأس هرم النظام العالمي. بينما برجوازية كتلك التي تشكلت في روسيا أو الصين، تبلورت في مرحلة مختلفة تماما، هي مرحلة انتقال إلى الاشتراكية، ولم تنمو في أحشاء المجتمع الاقطاعي، كما أنها نبتت في صفوف المثقفين والكوادر، لا في صفوف التجار والمرابين الذين دشنوا المانيفاكتورات الأروبية.. وثمت العديد من الفوارق الجوهرية الأخرى التي لا يتسع المقال لمناقشتها، والتي لا بد أن نعود لها إذا ما سنحت الفرصة. ما يهم هنا هو استيعاب التالي: إن المطامع والامكانات والتوجهات السياسية والاقتصادية للبرجوازيتين الروسية والصينية ليست نفس مطامع وتوجهات برجوازية المركز الامبريالي، وأن ممارسة القطبين للصراع الدولي مختلفة تماما. إنه تناقض مهم بين توجه يسعى لتكريس الوضع الدولي القائم كونه مستفيدا منه، وبين توجه يسعى لتغييره وتفكيكه كونه لا يخدم مصلحته.

ولذلك ينبغي النظر إلى روسيا والصين كعنصري قوة، وجب استغلال وجودهما للتقدم في إنجاز مهام التحرر الوطني، دون إغفال الحدود التاريخية لهذا الالتقاء، فمن الغباء توقع دعم لا مشروط من طرفهما لسيرورة التغيير بالمنطقة، أو حتى مواقف داعمة لحراكات الشعوب، فلا مجال هنا للنوايا الحسنة: الصين وروسيا تريدان ببساطة التعامل مع قوى سياسية منظمة ووازنة، على قاعدة المصالح الاقتصادية والسياسية المتبادلة، بهدف كسر طوق السيطرة الغربية. لا ينبغي إذن النظر إلى الصين وروسيا كمراكز إمبريالية، بل كقوى نقيضة في المرحلة الراهنة لهيمنة المركز لامبريالي، الصين وروسيا تريدان تفكيك المنظومة العالمية، وأحد أهم المهام المعلنة للبلدين القضاء على هيمنة الدولار، والتي تعتبر شريان المنظومة الرأسمالية العالمية، وأهم ألغاز احتكار حفنة ضيقة من الرأسماليين لثروات العالم.

مقارنة بين إيران وتركيا:

يبدو واضحا أكثر الآن طبيعة العلاقة بين دول كإيران من جهة، وبين الصين وروسيا من جهة أخرى، فلا غرابة أن تجد هذه البلدان نفسها في نفس التوجه. يتضح كذلك موقع إيران من معادلة حركة التحرر الوطني العربية، لقد اتخذت القيادة الإيرانية منذ البداية موقفا حاسما من الصهيونية والقضية الفلسطينية، ولذلك دلالاته، ومن الخيانية التفكير في تبخيس الدور الوطني المقاوم الذي لعبته إيران في دعم المقاومة الفلسطينية، وفي تشكيل قوة عسكرية وتوازنات سياسية أحبطت العديد من المخططات الأمريكية، وأوقفت زحف الامبريالية والصهيونية والرجعية العربية على العديد من الجبهات، كما من العبث إعطاء هذا الدور أكثر من حجمه، وعدم رؤية حدوده البنيوية والسياسية، فالأصوات التي تصرخ اليوم بأن إيران لم تطلق رصاصة باتجاه الكيان، وأن مقاومتها زائفة، هي تعبير عن استمرار نهج التيهان الإديولوجي والخمول الفكري، فمقاومة إيران للامبريالية محدودة بالأفق التاريخي والبنيوي للبرجوازية الدولتية، لكنها ليست إطلاقا مقاومة زائفة، والفرق بين المحدودية والزيف شاسع نظريا وتطبيقيا.

نأخذ مثالا مضادا، تركيا الأردوغانية مثلا، نموذج حي لزيف شعارات المواجهة مع الكيان الصهيوني، في استغباء بليد وأحيانا مضحك للشارع العربي والإسلامي. وهذا ليس حكما إديولوجيا، بل وقوفا على موقع ودور البرجوازية التركية في الصراع الاقليمي، وعلى مسار تشكل برجوازيتها الليبيرالية المختلف جذريا عن تشكل البرجوازية الدولتية الإيرانية. إن موقع تركيا الاقتصادي ليس موقع أمة تحاول التحرر من التبعية، بل موقع إمبريالية فرعية، ويقصد سمير أمين بالإمبرياليات الفرعية أذرعا محلية دعمتها وأنعشتها الامبريالية في مراحل معينة لتكون نقاط ارتكاز اقتصادية وجيوسياسية لها في مناطق مختلفة من العالم. تركيا أحد هذه الفرعيات، نموذجها التنموي ليبيرالي محض، ويختلف جوهريا عن النموذج الاقتصادي الإيراني الشديد التمركز والانكفاء على الذات، ناهيك عن كونه نموذج تطور في ظل العقوبات الاقتصادية، في حين أن النموذج التركي ازدهر في ظل السخاء الغربي.

هذا التحليل يقود إلى نتائج سياسية مهمة، فلا يمكن أن ننتظر مثلا من التنظيمات التابعة لتركيا بالمنطقة، غير التطبيل للمواقف الأمريكية من القضايا العربية المصيرية، فالتيارات الإخوانية بدون استثناء تقريبا، تتبع السياسة الرسمية لتركيا، تكفي العودة للأدوار التي لعبتها في سوريا، وليبيا.. بل يكفي العودة لأحداث الأسبوع الماضي ومحاولة الولايات المتحدة الفاشلة “لمقاطعة المنتوجات الصينية” قبل أسبوع، وكيف انخرطت فيها بحماسة تركيا وجيوبها الإخوانية في المنطقة.. نتمنى أن نأتي على هذا الموضوع في مقالة أخرى نظرا لأهميته.

باختصار فسياسة تركيا وتدخلاتها الإقليمية منسجمة تماما مع المصالح الإسرائيلية والأمريكية. فهل يمكن المماثلة مثلا بين مصالحها وتدخلاتها ووجودها في المنطقة العربية، وبين الوجود والدور الإيراني؟؟ وهل يمكن المماثلة مثلا، بين تنظيم كالإخوان المسلمين وتنظيم كحزب الله؟! هذه المماثلة من عبقريات بعض يساريينا العاجزين عن رسم الاصطفافات السياسية بدقة ومنهجية، فتراهم يحتكمون إلى خلط المعاير السياسية بالمعايير الفكرية، وينتهون إلى استنتاج تصنيفات ليبيرالية النتائج والغايات: “إسلاميون”، “ظلاميون”، “إسلام سياسي”… وغيرها من التصنيفات الإديولوجية البئيسة التي تنطلق مما تقوله قوة سياسية ما عن نفسها، لا من موقعها الملموس في واقع الصراع الطبقي، فتراهم يبسطون الاختلاف بين التنظيمين المذكورين إلى مجرد اختلاف مرجعي (سنة وشيعة) في صفوف قوى كلها بالنسبة لهم “رجعية” وتنتمي جميعها إلى خندق “الظلامية”.. وبما أن ضد “الظلامية” هو “التنوير”، ينتهي أصحابنا إلى رسم تحالفات وهمية لمعارك أكثر وهما: تكتل “حداثي” بين اليسار والليبيراليين لفصل “الدين” عن “السياسة”، هكذا بالضبط يخسر يساريونا الأذكياء معركة التحرر الوطني وينتهون إلى موقف ذيلي للإمبريالية.

لنسترجع ما سبق، من نتائج هذا التحليل أنه يقودنا إلى موقف صريح من تركيا وأذرعها الإخوانية في المنطقة: لا يمكن إطلاقا الرهان على أي دور للبرجوازية التركية في صالح حركة التحرر الوطني العربية، إن الدور التركي هنا رجعي بامتياز، النظام التركي عدو مباشر للأمة العربية. وإذا كان الموقف من إيران يبنى على أرضية “دعم نضال الشعب ضد النظام ودعم نضال النظام ضد الامبريالية”، فإن الموقف من تركيا يجب أن يبنى كالتالي: “لا فرق بين النظام التركي والامبريالية”! وإذا كان ينبغي النظر إلى العلاقة مع نظام إيران كعلاقة تعاون ضد الامبريالية، وفي نفس الوقت نقد صريح ولاذع لكل مظاهر الاستبداد يتميز بها هذا النظام، فإنه ينبغي النظر إلى العلاقة مع نظام تركيا كعلاقة بعدو لا بخصم، علاقة لا التقاء فيها على أي نقطة من النقاط البرنامجية لحركة التحرر الوطني العربية! بل إن كل التقاء مع هذا النظام العميل وأدواته الإخوانية، يجب أن ينظر إليه تماما كالتطبيع مع إسرائيل: خيانة لخندق الثورة العربية.

المرحلة القادمة حاسمة في مستقبل المنطقة والعالم، والتطورات المقبلة تحتاج أكثر ما تحتاج إلى وضوح الرؤية ونقد أخطاء الماضي القريب، والرسم الصحيح للجبهات والتحالفات، والحركة ستحنط وتلفظ كل قوة سياسية لا تستطيع مواكبة ما يجري وسيجري بالمنطقة.

حسين بنعيسى
6 يناير 2020

قد تعجبك أيضاً

اترك تعليقًا