النظام الراسمالي في مرحلته الامبريالية يزداد وحشية وجزا ولا إنسانية. ففي العرف الرأسمالي، تأتي صحة وسلامة الانسان في مرحلة متأخرة بعد الاستغلال والربح. الرأسمالية فوتت في قطاع الصحة، هذا القطاع الحيوي، للخواص ولم تترك للفقراء ومتوسّطي الدخل سوى بنايات خاوية تفتقد للمعدات الضرورية والأدوية وكل وسائل العلاج الاساسية، وحتى إن وجدت هنا أو هناك فبكميات محدودة لا تفي بالحاجة في الحالات الاستثنائية.
واقع اليوم هو صحة للفقراء واخرى للاثرياء، وكل شيء يباع ويشترى وخاضع لمنطق العرض والطلب في الزمن الراسمالي القبيح بما في ذلك صحة الانسان. والربح هو المحرك الاساسي لكل شيء.
إيطاليا الجريحة التي فتكت بها الكورونة، لم تجد يد المساعدة من جيرانها الذين يشكلون معها الاتحاد الاوروبي ولا من اقوى دولة في العالم حليفتها في الناتو الولايات المتحدة الامريكية، لان إيطاليا انخرطت بحثا عن مصالحها في طريق الحرير لتصبح شريكا تجاريا مع دولة الصين، المنافس الاقتصادي الاول للعالم الغربي.
الايطاليون وهم يشيعون موتاهم بالمئات يرفعون شارات الشكر والامتنان لأنظمة كوبا والصين وروسيا التي زودتهم بالطواقم الطبية والمعدات والأدوية. انظمة امريكا والمانيا وفرنسا وانقلترا، مهد الامبريالية المعولمة، تطالب شعوبها بملازمة منازلهم وتطبيق الحجر الصحي الصارم كإجراء أساسي للتوقي من الفيروس لأنها لا تتوفر على الامكانيات الضرورية لمعالجة مرضاها، وتدعو في نفس الوقت إلى الوحدة القومية، أي الاصطفاف وراء إخفاقها وبورجوازياتها الانانية العفنة تضغط من أجل الترفيع في وتيرة العمل ودهورة ظروفه وتنشر الرعب في المجتمع وفي صفوف الطبقة العاملة لاجبارها على دفع الفاتورة حتى تتجنّب مفاعيل الازمة، أزمة كورونا، التي تضاف للازمة السابقة التي اندلعت منذ 2008 وهي أزمة مرتبطة بجوهر الراسمالية ذاته وناجمة عن تناقضاته الداخلية.
الامبريالية لا تعير اهتماما للصحة العمومية ولا تستثمر فيها وتركت ذلك للرأسمال الخاص لان أولوياتها هي ضمان أوفر الربح لمن تعبر عن مصالحهم طبقيا وتحمي هيمنتهم على المجتمع عبر مؤسساتها القمعية المختلفة من إعلام وعسكر وقوى أمنية وقوانين وكنيسة وغيرها. هذا هو السلوك الطبيعي للامبريالية الذي ينسجم مع وحشيتها وجبروتها وهي تمارسه في كل الحالات والاوضاع بما في ذلك زمن الازمات الوبائية.
الراسمالية في مرحلتها الامبريالية بدت عاجزة ولا حول ولا قوة لها أمام عدوٍّ غير مرئي يخترق الجغرافيا والطبقات والفئات المختلفة ويفتك بضحاياه بلا حساب. وهي لم تحسب حسابات الاوبئة مثلما حسبت حسابات مراكمة الارباح التي خططت لها بعناية وحرفية وهيّأت لها المناخات مستحضرة كل وسائل التقدم العلمي والتكنولوجي.
ما بعد كورونا لن يكون مثلما قبلها لا شك أن الشعوب التي شيّعت آلاف الجثامين في مشهد مرعب يذكرها بأزمنة الطاعون والحروب الكونية، ووقفت بالملموس على عجز نظم الحكم وعدم تحملها لمسؤولياتها وعلى جشعها وافتقارها الواعز الانساني وتاكدت من فشلها، لن تروم العيش مثلما في السابق.
فهي بحاجة لنظام صحي جديد ونظام عيش جديد وعلاقات جديدة بين السلطة والشعب وتوزيع جديد للثروات وأولويات جديدة ونظام تأجير جديد ونظام تعليمي جديد وبيئة جديدة وعلاقات خارجية جديدة وصداقات دولية جديدة وثقافة جديدة قوامها التضامن والتعاون الانسانيين. الرأسمالية في نسختها الوحشية المدمرة، وعلى رأسها غلاة الشعبوية والمحافظين، أصحاب الشعارات الزائفة والاصوات العالية المخاتلة، تعرت أمام الجميع في مشهد مخجل ومقرف ولم تعد مقبولة. والتمايز الطبقي الفاضح لم يعد مقبولا والتجمعات الاقليمية والاحلاف العسكرية والسياسية والاقتصادية القديمة لم تعد صالحة ولا مقبولة لأنها لم تكن حاضرة في الازمة الوبائية إلا من زاوية مزيد الاستغلال والإخضاع. إيطاليا وصربيا واسبانيا وكل الدول المستثناة من المساعدة الاوروبية والتي يعتبرها مؤسسو الاتحاد الاوروبي دولا مارقة وتشكل عبئا اقتصاديا عليه لن تقبل بالبقاء في هذه الزريبة الوحشية. وامريكا وفرنسا وألمانيا التي أربكها وباء كورونا وباتت تتخذ الاجراءات وتعد الخطط للتوقّي من اضطرابات واحتجاجات قد تعصف بكياناتها القشيّة، لن تقدرعلى مواصلة قيادة العالم الذي لن يبقى بدوره أحادي القطب ورهينة للقوى الامبريالية.
الإنسانية ستكون مهيأة في المستقبل القريب لنظام أكثر سلما وأكثر عدلا وأكثر تعاونا بين الشعوب وأكثر استثمارا في الغذاء والصحة والبيئة، ولتدخل أكبر من طرف الدولة في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية وفي الصحة العمومية والتعليم والثقافة والبيئة، استثمارا وتخطيطا وتنفيذا وتشغيلا.
الانسانية تتهيّأ لمرحلة جديدة لن تكون مثل الحالية، وتتّجه بخطى حثيثة نحو الاشتراكية التي تتميز بدور أكبر للعمال والشعوب و الشباب والنساء في الشأن العام وقيادة الدولة وبديمقراطية أوسع وحياة كريمة محكومة بالعدالة الاجتماعية والتآخي والتحابب بين الشعوب وانتفاء استغلال الإنسان للإنسان. الكرة الآن في مرمى القوى الثورية والتقدمية ومنظمات المجتمع المدني وفعالياته الشبابية والنسائية المطالبة بمزيد العمل والمساهمة في التسريع بهذا البديل العالمي الجديد شكلا ومضمونا.