بقلم : أبو منصور حرب
" إن تراث الأجيال الميتة يحط بثقل ثقيل على دماغ الأحياء" ماركس
لقد طغت في الآونة الأخيرة نقاشات كثيرة، أعادة من جديد الجدل حول مسألة التحالفات الى واجهة النقاش الفكري و السياسي بين القوى و التيارات السياسية بالمغرب، وهي نقاشات طغى عليها في لحظات كثيرة غياب الجدية في طرح الإشكال – أي مسألة التحالفات ، التي تعتبر من أكبر القضايا الفكرية و السياسية الحساسة ، إذ خيضت على أرضيتها العديد من الصراعات المبدئية في تاريخ الحركة الثورية العالمية .
واهم من يعتقد أن انبثاق هذه النقاشات ليس إلا ترفا فكري أو مجادلات لا طائل منها ، بل تجد أساسها المادي في التطور الذي يشهده واقع الصراع الطبقي محليا ودوليا ، و الذي من أهم سماته الأساسية التقدم النوعي الذي تعرفه الحركة الجماهيرية ( انتفاضة الحكرة في الريف وفي باقي المناطق بالمغرب ، انطلاق المبادرات حول الجبهة للدفاع عن المدرسة العمومية ، تنسيقيات الأساتذة المتدربين ، التململ الذي تعرفه الحركة الطلابية ضدا على مصادرة مقرها المركزي …) ومن جهة أخرى أزمة على كافة المستويات الاقتصادية و السياسية تعيشها دولة المخزن ومافيته والتي تشكل ابرز معالمها التصدع الذي تعيشه أحزابه الرجعية الملتفة حوله وفشلها في الاتفاق حول تقسيم الكعكة الحكومية …إن هذه التطورات كان لا بد أن تلقي بظلالها على تطور الحركة الثورية بالمغرب وتنعكس على شكل نقاشات مفتوحة على كل الاحتمالات ( حوارات ، تحالفات ، تنسيقيات ميدانية …) .
إن المتتبع لبعض النقاشات و الأطروحات التي تعبرعنها بعض التيارات السياسية التي تدعي الماركسية وتنصب نفسها مدافعا صالبا عنها، يلمس نمو " إتجاه " يسرواي طفولي بصدد بعض القضايا وعلى رأسها التحالفات ، " إتجاه " يستند بالدرجة الأولى على ما يمكن أن نسميه " علم" الجمل Phraséologie وهي عادة سيئة عانت منها الحركة الثورية بالمغرب لسنوات طويلة ولازالت حاضرة بقوة لا سيما على الساحة الطلابية المغربية ، ترديد الجمل و العبارات المحفوظة عن ظهر قلب قال عنها لينين ذات مرة أن مآلها هو التحول الى " ميولات برجوازية صغيرة منافية بصورة جذرية للماركسية " وهذه العادة السالفة الذكر ذهبت بالبعض الى القول " طريقنا طريق الثورة لا مساومة و لا تنازل " وذهب بالبعض الاخر الى محاولة تشويه التجربة التاريخية للحركة الشيوعية بصدد مسألة التحالفات لكي يبرر عجزه عن خوض غمار الصراع من أجل قيادة نضال الشعب المغربي وفي مقدمته نضال الطبقة العاملة .
وما زاد من حدة هذا الجدل المبادرات التي أقدم عليها النهج الديمقراطي في المشاركة في نداوة حوارية ضمت الى جانبه مجموعة من القوى ضمنها جماعة العدل والاحسان ، فقد لاق هذا الحوار هجوما من شتى الجهات بمن فيها قوى مشاركة في الحوار ! صحيح أن من بين النقاط التي ركز عليها النهج الديمقراطي في هذه الحوارات هي ضرورة تشكيل جبهة واسعة لمناهضة المخزن بإعتباره العدو الرئيسي لكل القوى الساعية الى التغيير بغض النظر عن مضمون وأفق هذا التغير . فما هي مبررات المهاجمين على هذه المبادرة وكيف يفهمونها ؟
وجب تسجيل ملاحظة أساسية كما أشرنا سابقا فمعظم الانتقادات التي وجهت كانت في غالبها انتقادات لها طابع " البوليميك " أكثر من هي طرح القضايا الجوهرية وعلى رأسها الجبهة وفي قلبها مسألة التحالفات ، فكيف يفهم الشيوعيين و الشيوعيات مسألة التحالفات ؟
في نقد أطروحة وحدة " الإسلام السياسي " و التجربة الإيرانية.
من أكبر المبررات التي يسوقها الكثير من مناضلي اليسار حول الحوار مع قوى الاسلام السياسي ،أن هذه القوى هي كتلة منسجمة ، لا يخترقها الصراع الطبقي وهي بالضرورة خارج قانون التناقض وفي كثير من الأحيان تجد العبارة الشهيرة التي تسري على الكل «رجعية دينية يمينية معادية للجماهير ومعادية للثورة» ويضعونها كلها في سلة واحدة من داعش مرورا بالاخوان المسلمين الى حماس وحزب الله والسلفية الجهادية وصولا الى جماعة العدل و الاحسان ، من دون النظر الى الاختلافات في السياقات التاريخية و الطبقية و التحولات السياسية والاجتماعية التي تطرأ عليها في كل لحظة تاريخية ، فمثلا هناك من يرى أن جماعة العدل و الإحسان سنة 1990 هي نفسها الجماعة التي خرجت سنة 2011 للشارع الى جانب قوى يسارية – مع العلم أن تواجدها نفسها الى جانب هذه القوى كان من " المستحيل " داخل الجماعة – إن هذا الخلط في سلة واحدة بين قوى الاسلام السياسي يمكن تشبيهه بمحاولة من يريد جمع كل من يقول بالشيوعية أو الماركسية أو الديمقراطية في سلة واحدة .
ينطلق الكثير من المناضلين –ات في نقدهم للحوار وبناء جبهة تضم كافة المعادين للمخزن (ومن ضمنهم جماعة العدل و الإحسان)، من التاريخ الدموي الذي عرفته الحركة الطلابية إبان فترة التسعينيات حيث كان الطلاب المحسوبين على الجماعة وراء اغتيال وإعطاب مناضلين يساريين . هذه الأحداث الأليمة ظلت راسخة – وهي من زاوية أخرى مبررة – في أذهان الكثير من المناضلين لاسيما من عاصروا تلك الحقبة ، غير أنه وجب الإشارة الى أن هذه المبررات ليست وليدة اللحظة بل عايشناها في عز نضال حركة 20 فبراير، فالبعض كان يكفيه تواجد قوى الإسلام السياسي في مسيرات وجموع الحركة حتى يعلن انسحابه والابتعاد عنها ولعنها في الجنبات . إن هذه المبررات كما أشرنا في مقالات سابقة لها جذور طلابية أكثر من هي قراءة طبقية ثورية لمجموع العلاقات بين الطبقات في المغرب ، فالقراءة " الطلابية " هي قراءة جزئية لأنها تنطلق من موقعها داخل الحركة الطلابية باعتبارها جزء من الكل – الحركة الجماهيرية – فمعرفتها تبقى جزئية مرتبطة بشروط تطور تلك الحركة ككل ولا يمكنها أن تنتج لنا معرفة " كلية " بتطور الصراع الطبقي ، فماذا تقول لنا التجربة التاريخية للحركة الشيوعية العالمية بهذا الصدد .
إنّ عقد الاتفاقات والتحالفات ليس بدعة لدى الماركسيّن، والذي تقع فيه قضيّة الجبهة في صلب الإستراتيجية والتكتيك. في معرض حديثه عن ثورة 1848 في فرنسا دافع ماركس عن تحالف العمّال والمزارعين والبورجوازيّة الصغرى تحت قيادة البروليتاريا وأكّد أنّ العمّال ليس بمقدورهم تحقيق أيّة خطوة إلى الأمام دون هذا التحالف. وعمّق لينين مسألة التكتيك الثوريّ بحيث أصبحت قضايا التكتيك والاستراتيجية جزءا من علم قيادة نضال البروليتاريا الثوريّ معتبرا التحالفات الظرفية التّي تُعقَد حتّى مع العناصر غير الثابتة ضروريّة لوجود أيّ حزب ، كما اعتبر ماوتسي تونغ أنه بدون أدوات للثورة لن يبقى منها سوى الاسم ، وأكد على ضرورة وجود حزب ثوري يقود جيش العمال و الفلاحين في إطار جبهة تضم كل الطبقات الشعبية .إن من ينفي التحالفات التكتيكية و الإستراتيجية بمبرر " التاريخ الدموي المشترك " ينسى اهم خلاصات الثورة الالمانية و الصينية .
في ألمانيا خلال الفترة الممتدة ما بين 1918 و1933 لم يستطع الحزب الشيوعي الألماني أن يشكل جبهة مناهضة للخطر النازي قيد النمو ، ويعتبر ديميتروف أن أكبر الأخطاء التي ارتكبها الحزب الشيوعي الألماني تكمن في عدم تقدير الآثار العميقة التّي خلفتها معاهدة فرساي( خميس عرفاوي – الشيوعيون ومسألة التحالفات )، إضافة الى احتقار تردد ممثلي الفلاحين والبورجوازيّة الصغيرة، فبقوا منعزلين عنهم. كما أنّهم تأخّروا كثيرا في صياغة برنامج تحرّر اجتماعيّ ووطنيّ حيث ساد الاعتقاد بان المهمة المباشرة هي إقامة الجمهورية الألمانية السوفيتية ( وهذا خطأ ناشئ عن توجيهات الأممية الثالثة وعانت منه الصين كذلك ) . ولم يهتمّ الحزب الشيوعيّ بشكل جدّي بتوحيد الطبقة العاملة وعموم الشعب الالماني رغم أنّه دعا الحزب الاشتراكيّ الديمقراطيّ العديد من المرّات إلى بناء الجبهة. هذا الحزب الذي يتحمّل المسؤوليّة السياسيّة المباشرة في قتل روزا ليكسمبورغ وكارل ليبنخت أبرز قادة الحزب الشيوعيّ الألمانيّ ، ويعود هذا القصور إلى أنّه كان يرى أنّ الاشتراكيّة الديمقراطيّة هي السند الأساسيّ للبورجوازيّة وأنّها تدعم قيام النظام الفاشيّ. وهذا يبرّر، في نظره، النضال بدون هوادة ضدها ، وهذه النظرة لازالت عندنا اليوم حيث يرى البعض أن فيدرالية اليسار هي العدو الرئيسي للثورة !
بالنسبة للتجربة الصينية فهي غنية بالدروس فيكفي أن نسوغ مثال بناء الجبهة المناهضة للتدخل الامبريالي الياباني في الصين ، فبين سنتي 1931- 1941 وبمبادرة الحزب الشيوعي الصيني تشكلت جبهة وطنية تضم في صفوفها بشكل رئيسي حزب الكيومينتانغ الذي أباد حوالي أربعة أخماس الحزب الشيوعي وأجبر الحزب على العمل السرّي فى المدن خلال الحملة الشمالية ، هذا التاريخ الدموي المشترك لم يمنع الشيوعيين – ات الصينيين من تشكيل جبهة هدفها الرئيسي ليس بناء الاشتراكية أو الديمقراطية بل طرد الغازي الياباني ، يقول ماو " إن تطور التناقض بين الصين و اليابان قد جعل التناقضات المحلية ، بين الطبقات و بين الجماعات السياسية تنحدر ، من ناحية الأهمية السياسية ، إلى مركز ثانوي و تابع. إلا أن هذه التناقضات ما زالت موجودة و لم تتقلص أو تختف بأي حال من الأحوال " بل استطاع الحزب أن يقدم تنازلات في مسألة الإصلاح الزراعي لصالح بعض الإقطاعيين الذي دعموا الجبهة المتحدة ضد اليابان وسماهم بالإقطاع المستنير.
إن مسألة بناء التحالفات لا تقوم على التاريخ الدموي المشترك ولا على مدى أهلية هذا التيار أو ذاك في الاستمرار في التحالف ، فتطور الصراع الطبقي يفرض عليك في لحظات معينة كسب حليف جماهيري مؤقت ومتذبذب ولا يركن إليه من أجل إنجاز خطوة عملية تقتضيها الحركة ، إن ".الانتصار على عدو أشد بأسا لا يمكن إلا ببذل أقصى الجهود ، و لابد أثناء ذلك من الاستفادة كل الاستفادة ، و بمنتهى الاهتمام و اليقظة من أي " صدع" فيما بين الأعداء مهما كان ضئيلا …، و بين مختلف الزمر والفئات البرجوازية في داخل كل بلد . و كذلك الاستفادة من أية إمكانية ، مهما كانت ضئيلة، لكسب حليف جماهيري، و ليكن حليفا مؤقتا و متذبذبا و مزعزعا ، و لا يركن إليه و بشروط. و من لم يفهم هذا الأمر فهو لم يفهم و لا حرفا واحدا في الماركسية و في الاشتراكية العلمية الحديثة بوجه عام".