من موقع المنخرط في دينامية نضالات الشغيلة التعليمية ممارسين ومتقاعدين، نحاول رصد بعض الدروس الاولية، التي يمكن استخلاصها منها، على اعتبار أن الممارسة العملية هي إحدى أهم مصادر المعرفة العلمية، بل هي كذلك المحك الحقيقي لاختبار النظريات السياسية والخطط والبرامج والتصورات…
- النضال الجماهيري المنظم الوحدوي المستمر وحده يجدي. ينبغي الوقوف كثيرا عند هذا الدرس بالتحليل، حيث ابانت الجماهير الأستاذية على استعداد نضالي منقطع النظير، تجسد في قدرتها على الوقوف أمام كل أشكال القمع والترهيب والاقتطاع من الأجور…، كما تبين كذلك ان الانخراط الجماهيري الواسع للأستاذة والأستاذات وأطر الدعم وغيرهم من الفئات، يجعل لشعارات المعركة قوة مادية كبيرة تستطيع وقف الحياة في المدارس بمختلف الاسلاك ومناطق المغرب. كما أظهرت هذه المعركة قدرة الجماهير على إبداع أدوات دفاعها الذاتي خصوصا أمام عجز القيادات النقابية البيروقراطية والفاسدة، عن التعبير عن تطلعات القواعد المنتفضة، حيث سارعت العديد منها للتمرد على تلك القيادات المنفصلة عن قواعدها، الى تأسيس تنسيقيات بشكل سريع، تفتح إمكانيات أوسع لممارسة نوع من الديمقراطية المباشرة حيث أن القرارات تنبع من المجالس الموسعة داخل المؤسسات التعليمية… كما استطاعت وسائل التواصل الحديثة توسيع نطاق ممارسة الديمقراطية عبر عقد اجتماعات مكثفة عن بعد ومتاحة للجميع نساء ورجال التعليم، مما يخفف من بعض العوائق الموضوعية التي من شأنها إقصاء بعض الاشخاص من المساهمة في قيادة المعركة النضالية. حيث أن الاقتصار على الاجتماعات الحضورية ومن داخل المقرات أو المقاهي يقصي عدة فئات مثل النساء اللواتي يعانين من صعوبة التنقل خارج المنزل او خارج المدينة بعد العمل نظرا للالتزامات العائلية، او بسبب العقليات الذكورية التي لازالت سائدة في اوساط المجتمع.
- وقد شكلت الوحدة النضالية أحد أهم أسباب زخم هذه المعركة حيث كانت السلاح الاكثر فاعلية من خلال قدرته على تشجيع الفئات المترددة على الانخراط في صفوف الجماهير المنتفضة ضد واقع الحكرة والهشاشة وسط الشغيلة التعليمية. هكذا فرض على بعض الاصوات التي كانت في البداية ترفض العمل مع التنسيق الوطني لقطاع التعليم بسبب وجود نقابة FNE، القبول بالتنسيق الميداني في المحطات النضالية سواء في أيام الإضراب أو في المسيرات والوقفات الإقليمية والجهوية والوطنية، وهو ما كان يتطلب القيام باجتماعات للتنسيق وتوحيد الشعارات… غير أن الوحدة هنا لا يعني تذويب الانتماءات أو تجاوز الاختلاف، بل استطاعت الجماهير الأستاذية أن تضمن وحدتها مع الحفاظ على تعدد الرايات واختلاف المرجعيات الفكرية والسياسية والتنظيمية… بخلاصة إنها وحدة تضمن الحق في الاختلاف او يمكن القول انها وحدة بصيغة التعدد.
- الاستمرارية لقد استطاعت الجماهير الأستاذية خوض معركة انطلقت منذ 2 اكتوبر2023، في اضرابات محدودة اسبوعيا… هذا النفس الطويل جعل من المعركة تحظى بزخم قوي وتبين أن الجماهير الأستاذية عازمة على الذهاب حتى النهاية، حيث تنكسر أمام هذا الاصرار كل المناورات الحكومية التي كانت تراهن على الوقت لخفوت هذا الزخم النضالي، ان طول استمرار هذا الحراك التعليمي هو فرصة ذهبية للرفع من نسبة الوعي النقابي والسياسي لدى عموم الشغيلة التعليمية، بل انه بمثابة دورة تكوينية مفتوحة لتعلم ابجديات النضال باعتباره السبيل الأساسي لتحقيق المطالب، فلا شيء يمكن أن يتم الحصول عليه دون تضحيات ونضال جماعي واعي ومنظم، لقد استرجعت الجماهير الاستاذية ثقتها بنفسها، حيث انتقلت فيما يمكن ان نطلق عليه “فئة بذاتها إلى فئة لذاتها” أي فئة تعي وضعها الاجتماعي وتعي بمستويات مختلفة حجم الاستهداف الذي يحاك ضدها.
- الاعلام: تدار تفاصيل هذه النضالات الاجتماعية على المستوى الإعلامي، حيث سخرت الدولة كل امكانيتها الإعلامية والدعائية لتشويه نضالات الأساتذة وتبخيسها حيث في البداية كانت تروج ان نسب الاضراب لا تتجاوز 30 ألف، لكن الواقع سوف يكشف هذه الادعاءات، حيث سوف يتبين للجميع ان كل المؤسسات مشلولة، كما حاولت الدولة تأليب الرأي العام خاصة أمهات واباء واولياء التلاميذ والتلميذات، لكن انقلب السحر على الساحر، واصبح هناك تعاطف شعبي واسع، ان ربح المعركة الإعلامية لحدود الساعة لصالح نساء ورجال التعليم، يمكنه إرجاعه في نظري إلى عدة أسباب من بينها: وجود مؤسسات إعلامية رقمية مهنية تخصص حيز زماني مهم، يفتح مجالا لممثلي نساء ورجال التعليم، للرد على ادعاءات ومناورات الحكومة من جهة، ويوضح أسباب هذه الاحتجاجات ويعري على واقع الظلم والهشاشة الذي يعاني منه العاملين بالتعليم من جهة اخرى. كما ان اتقان نساء ورجال التعليم لاستعمال التكنولوجيا الحديثة، ومنصات التواصل الاجتماعي ساعد في قدرة الاسرة التعليمية على ابداع مواد رقمية مختلفة تساعد على شرح الملف المطلبي لنساء ورجال التعليم.
- تجدر الإشارة ان هذه الهبة الجماهيرية، تعاني من بعض الإشكالات التي ينبغي التعامل معها بنوع من الحيطة والحذر، وينبغي فتح نقاش فيها حتى لا يتم استغلالها لتفجير الحركة من الداخل، من بينها؛ التعلق العاطفي بالأشكال النضالية، حيث ان الاغلبية على سبيل المثال، لا ترى في عدد ايام الاضراب وسيلة نضالية خاضعة لحسابات تطورات المعركة النضالية، بل تحاكم بها نضالية هذا المكون او ذاك. كما ينبغي الوقوف عند غياب الثقة في الكل، خصوصا العمل النقابي، حيث ان سنوات من سيادة العمل النقابي الفاسد الذي يتخذ من الطبقة العاملة وسيلة للاغتناء ومراكمة المصالح الخاصة والامتيازات، جعل نساء ورجال التعليم متوجسة من الكل، لذلك ان العمل الحالي يقتضي من المناضلين والمناضلات الصبر على هذه الممارسات ووضعها في اطارها، وترك الممارسة العملية والمواقف والمحطات المقبلة كفيلة بزرع الثقة وتنميتها في افق كسبهم تجربة نقابية كفاحية ديمقراطية جماهيرية تقدمية مستقلة.
ان هذه القراءة الأولية، ينبغي ان تتبعها قراءات متعددة تحليلية، تساعد على فهم عمق الدينامية النضالية الحالية، قصد تعميم الفائدة على الطبقة العاملة وعموم الكادحين المكتوين بنيران الفساد والاستبداد. كما ان الدراسة المتأنية لهذه التجربة قد تساعد في رسم افاق هذه المعركة خصوصا من حيث تكوين ذات مناضلة قادرة على تحصين هذه المكتسبات التي يتم تحقيقها الان، حتى لا يتم الالتفاف عليها من جديد من طرف الحكومة الحالية او الحكومات اللاحقة، على اعتبار ان النظام الرأسمالي التبعي بالمغرب يهدف استراتيجيا الى تكسير وتخريب كل المكتسبات الاجتماعية من تعليم وصحة ووظيفة عمومية وصناديق التقاعد… وذلك انسجاما مع خضوعه للصناديق الدولية المانحة ذات التوجهات النيوليبرالية.