الصفحة الرئيسية قضايا وطنيةسياسة اليسار: أسباب ضعفه وإمكانية استعادته لقوته

اليسار: أسباب ضعفه وإمكانية استعادته لقوته

كتبه user B

عبد الله الحريف

بالرغم من كون الظروف الموضوعية في العالم( أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية عميقة ومتفاقمة وانكشاف فشل الرأسمالية على المستويات الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية والاجتماعية والبيئية والقيمية بفعل جائحة كوفيد-19) ملائمة لتطور اليسار وتبوئه موقع الصدارة، يتسم اليسار بالضعف والتشرذم والتيه الفكري. بل أصبح مفهوم اليسار نفسه غامضا ومضببا. لذلك لا بد من تحديد ما هو اليسار اليوم.

1. ماهو اليسار؟

يتكون اليسار من القوى التي تطمح إلى تمثيل الطبقات والفئات والشرائح الشعبية وتناضل من أجل مصالحها الآنية(تحسين أوضاعها المادية والمعنوية) والاسترتيجية المتمثلة، في دول المركز الرأسمالي، في الاشتراكية، وفي دول المحيط، في التحرر الوطني والديمقراطية على طريق الاشتراكية وتدافع على قيم التقدم والحرية والعلمانية والمساواة والكرامة.

وأود التأكيد هنا على مسألة أساسية وهي أنه، خلافا لليمين الذي يوحده الدفاع عن جوهر النظام القائم، أي الرأسمالية، فإن اليسار يعاني من انقسام عضوي وهيكلي بين يسار جذري يناضل من أجل القضاء على الرأسمالية وبناء الاشتراكية في المركز الرأسمالي والدولة الوطنية الديمقراطية الشعبية على طريق الاشتراكية في دول المحيط ويسار إصلاحي يحلم بأنسنة أو التعايش مع الرأسمالية. وهذا الواقع له أسسه الطبقية في كون اليسار الاصلاحي يرتبط بفئات وشرائح الطبقات الوسطى المترددة بين الالتحاق بصف الطبقة العاملة وعموم الكادحين أو الالتحاق بصف الطبقات السائدة.

– اليسار الجذري يتشكل من كل القوى السياسية والنقابية والجمعوية والحركات الشعبية المناهضة للرأسمالية. وتحتل الطبقة العاملة، باعتبارها الطبقة النقيض للبرجوازية، موقعا حاسما في هذا الصراع الذي يتطلب تملك الطبقة العاملة لفكرها المناقض للفكر البرجوازي، الماركسية، كمنهج للتحليل ونظرية من أجل التغيير الثوري، يجب تطويرها باستمرار، وأدوات تحرير نفسها من الاستغلال( النقابة لممارسة الصراع الاقتصادي والحزب لممارسة الصراع السياسي) وتحرير المجتمع من كل أشكال الاضطهاد( الاضطهاد الجنسي والعرقي والديني وغيرها).

2. بعض أهم أسباب ضعف اليسار:

لعل أخطر ضعف يسم اليسار في العالم هو هيمنة الفكر الاصلاحي داخله والذي أدى إلى التخلي عن الصراع الطبقي لفائدة “التعاون” الطبقي( مفاهيم الشراكة بين الرأسمال والعمل و”المقاولة المواطنة” و”الشركاء الاجتماعيين” و”المسئولية الاجتماعية للمقاولة”…) والمراهنة على اصلاح الرأسمالية والتي تؤدي الشعوب ثمنها غاليا.
وسبب هيمنة الفكر الاصلاحي وسط اليسار هو انهيار تجربة بناء الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي وتراجع حركة التحرر الوطني في جل دول المحيط الرأسمالي والدعاية المكثفة ضد الاشتراكية والماركسية، خاصة من خلال فكر ما بعد الحداثة وما بعد الماركسية، الذي يشكك في أسس الفكر التقدمي وجدوى التغيير ويطرح كبديل الاكتفاء بالعمل على قضايا جزئية وعلى الهويات وعلى قضايا مجتمعية كقضية المرأة مثلا والترويج للعمل في”المجتمع المدني”، وترسيخ فكرة أن لا بديل عن الرأسمالية وبالتالي محاولة قتل ذلك الطموح المنغرس في وجدان الشعوب بإمكانية قيام عالم أكثر عدلا.

وقد أدى ذلك إلى ابتعاد العديد من اليساريين عن الماركسية بل تحول بعضهم إلى لبراليين. أما أغلب المناضلين المناهضين للرأسمالية، فابتعدوا عن العمل السياسي وتوجهوا إلى الانغماس في الحركية واختزال الصراع الطبقي في النضال في النقابات وجمعيات المجتمع المدني والمنتديات الاجتماعية العالمية والقارية والإفراط في الرهان على الحركات المناهضة للعولمة مع أنها حركات مائعة. كما أدى إلى تراجع الاهتمام بالنظرية، داخل اليسار، وتراجع القناعة بإمكانية التغيير الجذري والاشتراكية.

كما أن أحد أهم أسباب هيمنة الفكر الاصلاحي وسط اليسار هو ما أسميه “الوهم الديمقراطي” الذي يرتكز إلى طمس الأساس الطبقي للديمقراطية. وهو ما يؤدي إلى الاعتقاد بأن التغيير الجذري يمكن أن يتم، بالأساس، من خلال الانتخابات وأن أجهزة الدولة محايدة في الصراع الدائر في المجتمع بينما هي أحد أهم ركائز وأدوات هيمنة البرجوازية. والحقيقة أنه، بدون التحكم في المفاصل الأساسية للاقتصاد وتفكيك أجهزة الدولة الموروثة عن الأنظمة السابقة وإعادة بنائها على أسس ديمقراطية شعبية، يسهل على البرجوازية، التي حافظت على هيمنتها الاقتصادية، استعادة هيمنتها السياسية( حالة البرازيل وبوليفيا والتشيلي أيام أليندي…).

إن الموقف من الانتخابات( المشاركة أو عدم المشاركة أو المقاطعة) و المؤسسات التمثيلية مسألة تكتيكية يحدده الجواب على السؤال التالي: هل يخدم تأجيج الصراع الطبقي أم يعرقله أو يحاول تلطيفه؟

وشكل التعامل الخاطيء مع الحركات الاجتماعية وقضية البيئة أحد أسباب ضعف اليسار. فقد ساد وسط العديد من مكونات اليسار المناهض للرأسمالية تصور يبخس دور الحركات الاجتماعية المتعددة والمشتتة والحركات الشعبية الذي يحصر المتبنين له( أي لهذا التصور) علاقتهم بها في التضامن معها من خارجها وليس الانخراط فيها. ويتجاهل هذا التصور أن هذه الحركات وليدة واقع موضوعي يتمثل في النضال ضد أشكال من الاضطهاد لا يمكن اعتبارها ثانوية أو مؤجلة إلى أجل غير مسمى وشكل من أشكال مواجهة إضعاف الدور الاجتماعي للدول لفائدة تضخم دورها القمعي وإضعاف الحركة النقابية الذي طبقته الرأسمالية منذ ثمانينات القرن الماضي وما نتج عنه من هشاشة الأوضاع الاجتماعية لجماهير شعبية غفيرة.

الشيء الذي يجعل الناس، لحماية أنفسهم من همجية الرأسمالية، ينطوون على هوية خاصة، إما مرتبطة بالبنية الفوقية( الدين، الهوية، الإثنية، البيئة…) أو منطقة مهمشة أو للدفاع على مصالح فئة معينة متجاوزين العمل النقابي في المركزيات النقابية، وذلك على حساب هويتهم كمواطني ومواطنات دولة معينة وكأعضاء وعضوات هذه الطبقة أو تلك. هكذا فإن هذه التنظيمات الذاتية للجماهير تعبيرات موضوعية وقارة وغير عابرة عن مقاومة العولمة الرأسمالية يجب الانخراط فيها والنضال من داخلها لتقويتها وتحصينها ضد الاختراق من طرف أجهزة الدولة وتصحيح الانحرافات التي قد تسقط فيها. كما يجب على اليسار الثوري احترام استقلاليتها، دون أن يعني ذلك عدم الدفاع، بأشكال ديمقراطية، عن تصوره الخاص لها. فلا غرابة أن يبحث العامل والأجير بشكل عام على فضاء آخر يظن أنه سيوفر له الحماية والتضامن الذي هو في أمس الحاجة إليه والذي لم يعد الاطار النقابي يوفره. أما الانتماء الحزبي، فإنه يعني الاقتناع بمشروع ذو بعد وطني إن لم يكن إقليمي أو عالمي. ولذلك نرى أعضاء وعضوات هذه الحركات بسبب انغلاقهم على هوية أو فئة أو منطقة معينة، في العديد من الأحيان، يتحفظون عن الانتماء الحزبي أن لم يكن يحاربونه أو يطرحون بناء قوى سياسية على أساس هوياتي، خاصة وأن أجهزة الدعاية السائدة رسخت أن العمل السياسي فاسد.

هكذا فإن غياب تمفصل سديد بين القوى السياسية المناهضة للرأسمالية التي تتسم، في الغالب، بضعف تجدرها وسط الجماهير الشعبية، وبين الحركات الاجتماعية والشعبية المناهضة للرأسمالية التي تتوفر على امتدادات شعبية مهمة، يؤدي، في كثير من الأحيان، إلى استفادة القوى السياسية الاصلاحية من هذه الحركات.

3. نحو استعادة اليسار المناهض للرأسمالية لبريقه:

غير أن الأوضاع العامة في العالم بدأت تتغير لصالح اليسار المناهض للرأسمالية، خاصة مع انفجار أزمة الرأسمالية، سنة 2008 وجائحة كوقيد-19 :

هكذا يتأكد، أكثر فأكثر، تعفن الرأسمالية وتهديدها للبشرية بالفناء، من خلال تدميرها المتسارع للطبيعة بسبب جريها الجنوني وراء الربح السريع، وبالتالي الضرورة القصوى لتجاوزها. ويعرف القطب الإمبريالي الغربي بقيادة الولايات المتحدة الامريكية التراجع.

وفي وقت تخوض فيه الرأسمالية صراعا طبقيا، لا هوادة فيه، ضد الطبقة العاملة وعموم الكادحين وجزء هام من الطبقات الوسطى، أصبح من الصعب نفي مركزية الصراع الطبقي الضروري لمواجهتها والاكتفاء بالنضال من أجل اصلاحها أو النضال المجزء في الحركات الاجتماعية والحركات الشعبية، بل صار من الضروري والملح بناء أدوات نضال الطبقة النقيضة للرأسمالية، الطبقة العاملة( الحزب المستقل عن البرجوازية) وبناء الجبهة الشعبية الواسعة وإيجاد تمفصل سديد بينهما وبين الحركات الاجتماعية.

كما يتأكد أن الماركسية هي النظرية القادرة على فهم قوانين الرأسمالية وتوفير أدوات تجاوزها، شريطة اعتبارها منهجا للتحليل ونظرية في التغيير الثوري، وضع ماركس وأنجلز حجرها الأساس، والتي تغتني باستمرار على ضوء الممارسة النضالية وبالاستفادة من التطور العلمي.

وأفلست الاشتراكية الديمقراطية، سياسيا بسبب خياناتها المتعددة وتقلصت قاعدتها الاجتماعية( الطبقات الوسطى) ، بشكل كبير، بسبب السياسات النيولبرالية التي طبقت منذ بداية ثمانينات القرن الماضي وفاقمت الهوة بين قلة قليلة من الرأسماليين الكبار وباقي الشعب.

وبدأت القوى اليسارية الشعبوية تعيش التآكل( سيريزا وبوديموس وفرانس أنسوميز).

وتعرف الديمقراطية البرجوازية أزمة عميقة جعلتها، أمام تصاعد النضالات الشعبية، تكشف عن طبيعتها العميقة كدكتاتورية ضد الطبقة العاملة وباقي الكادحين.

لقد راجع االعديد من مناضلي ومناضلات الحركات الاجتماعية موقفهم المتحفظ من القوى السياسية المناهضة للرأسمالية لأن الواقع أبان لهم(ن) أن نضالهم لوحدهم غير قادر على تحقيق مطالبهم ولأن عددا من القوى السياسية المناهضة للرأسمالية عبرت عن تضامنها وإسنادها لهذه الحركات وسعت إلى الانخراط فيها.

إن تجربة الحركات الشعبية الكبرى التي عرفها العالم في العشرية الماضية غني بالدروس:

ففي العالم العربي، بينت السيرورات الثورية التي أطلقها ما يسمى ب”الربيع العربي” أن تدخل الطبقة العاملة كان حاسما في رحيل بن علي ومبارك والبشير وبوتفليقة. لكن غياب أو ضعف حزب الطبقة العاملة والتحالف العمالي-الفلاحي مكنا البرجوازية من إجهاض الثورة في مصر ووضع عراقيل أمام تجدرها في تونس، بينما تضعا تحديات جمة أمام تطورها في السودان والجزائر.

كما أن النضالات الشعبية العارمة والطويلة النفس التي خاضتها العديد من الشعوب، خاصة في فرنسا والتشيلي، لم تحقق نتائج مهمة بسبب غياب الحزب المستقل للطبقة العاملة. بينما حققت الحركة في الإكوادور المطالب التي رفعتها بسبب تلاقي نضال الطبقة العاملة( الاضراب الوطني العام) مع نضال الشعوب الاصلية. لكن ضعف الحزب الماركسي-اللينيني الذي لعب دورا هاما في إنجاح الاضراب العام وقيادة الجبهة الشعبية من طرف حركة الشعوب الأصلية والتي يشكل الفلاحون قوتها الأساسية حالت دون تحولها إلى ثورة ضد النظام القائم.

إن تجربة الثورات المنتصرة( روسيا والصين والفيتنام…) تظهر الدور الأساسي الذي لعبه حزب الطبقة العاملة وقيادته للجبهات الشعبية، وخاصة التحالف العمالي-الفلاحي. لقد شكلت كوبا حالة إستثنائية حيث كان لزاما على قيادة حرب العصابات والتي كان زعماؤها، وخاصة فيديل كاسترو وتشي غيفارا، ينهلون من الشيوعية الثورية لمارياطيكي ومييا، عكس الحزب الشيوعي الذي كان متورطا مع باتستا، أن ينتقلوا، تدريجيا، من ثورة وطنية ديمقراطية إلى ثورة اشتراكية، تجنبا للصراع الصدامي مع الامبريالية الأمريكية وحلفائها، والتي خلالها تم بناء الحزب الشيوعي الجديد.
إن البرجوازية تمارس الصراع الطبقي بواسطة أدواتها الأيديولوجية والسياسية ولاقتصادية والاجتماعية والقمعية وتتوفر على هيئة أركان مركزية، هي دولتها، لوضع الخطط وبلورة الاسترتيجية والتكتيكات. ولا يمكن لقوى اليسار المناهض للرأسمالية خوض الصراع والانتصار وهي لا تتوفر على هيئة أركان لقيادة معاركها. وهذه الهيئة هي الحزب المستقل للطبقة العاملة من نوع جديد يسعى إلى بناء تمفصل بين الصراع ضد الرأسمالية الذي تشكل الطبقة العاملة رأس الرمح فيه وتنخرط فيه كل الطبقات والفئات والشرائح الشعبية المتضررة من الرأسمالية والصراع ضد كافة أشكال الاضطهاد( الجنسي والعنصري والديني والإثني وغيرها) وضد تدمير البيئة. هذا الصراع الذي يقوي الصراع العالمي ضد الرأسمالية، وفي نفس الآن، يتقوى بفضله في إطار علاقة جدلية.

لذلك، فإن نضال النهج الديمقراطي يندرج ضمن أربع سيرورات:

– سيرورة بناء الحزب السياسي المستقل للطبقة العاملة المنظم لعموم الكادحين: إن هذه السيرورة تتطلب إبداع أشكال من التنظيم تساعد على التمفصل بين الحركة النضالية للجماهير الكادحة وتنظيماتها الذاتية المستقلة وبين الحزب والعمل من أجل توحيد المناضلين والقوى التي تناضل من أجل القضاء على الرأسمالية والانغراس وسط الطبقات الكادحة وإغناء الفكر الاشتراكي وتأصيله في التربة المغربية.

– سيرورة تطوير وتوسيع الحركة النضالية عبر بناء وتطوير وتنويع تنظيماتها الذاتية المستقلة.

– سيرورة بناء تحالف الطبقات الشعبية عبر المساهمة في بلورة برنامج يركز مهام التحرر الوطني والبناء الديمقراطي على طريق الاشتراكية وتلتف حوله أكبر قوة سياسية واجتماعية ممكنة.

– سيرورة بناء أممية ماركسية من أجل تجاوز الرأسمالية وبناء الاشتراكية.

قد تعجبك أيضاً

اترك تعليقًا