الصفحة الرئيسية • وجهة نظرأقلام وآراء الشبيبة معاد اليعقوبي يكتب عن “التمرد أو الموت”

معاد اليعقوبي يكتب عن “التمرد أو الموت”

كتبه chabiba

بقلم معاد اليعقوبي

      حينما يفهم المرء ما يجري في هذا الوطن الجريح يجد نفسه أمام خيارين: إما التمرد أو الموت. أما الموت فله أشكال متعددة.. وأما التمرد فهو أن تتحول إلى لغم تحت أعدائك وقنبلة موقوتة تنفجر في وجههم، وجه أولئك الكلاب المسعورة التي سخرها النظام العميل وأسياده الإمبرياليين لممارسة الفظاعات في حق شعبنا العظيم وتجريده من حواسه وأحاسيسه ودفن أبنائه في حفر جهنم المظلمة مثل جراب الرمل.. إننا نسمع اليوم، نحن، أبناء وحفدة أولائك الذين اختطفوا واعتقلوا وعذبوا وقتلوا أنين رفاقنا الشهداء في الأقبية السوداء، يكابدون التعذيب الوحشي متأرجحين بين الموت والحياة، وأية حياة.. في قبور تبتلع الأجساد النحيفة رويدا رويدا، حيث الجوع هو الآخر يلتهم الجسد والضجر ينخر الأرواح، حيث الروائح النتنة، روائح العرق والمراحيض والإسمنت الممتزجة مع بعضها، التي تبعث على الموت الرحيم، الموت الذي كان يعني “الخلاص”.

إنها مشاهد حية في ذاكرة ووجدان الشباب الثوري، تأبى النسيان والطمس من قبل ورثة المجرمين المستمرون في مسلسل الإجرام الذي دشنه آباؤهم وأسيادهم، أولئك الذين تحالفوا مع المستعمر الغاشم ضد المقاومين وجماهير الفلاحين البسطاء، أولئك الذين تآمروا عشية الاستقلال الشكلي ضد الشعب المغربي وتنظيماته الشعبية التي بناها في معمعان الكفاح الشاق في وقت كانت سلطتهم تتهيكل، سلطة الكومبرادور والملاكين العقاريين الكبار، سلطة العملاء والخونة والمرتزقة..

إن الجيل الحالي يعرف كيف قاد المخزن وأسياده الغزاة الامبرياليون حملة الاجتثاث ضد المقاومة المسلحة، و كيف قام جهاز مخابراتهم بتصفية أعضائها الذين اقترفوا ذنب الحب الصادق للوطن، والتطلع إلى استقلال حقيقي لبلد استولى عليه لصوص الخارج والداخل.. يعرف كيف قاموا بتصفية جيش التحرير واغتيال عباس ورفاقه وإدماج جزء منه في القوات القمعية حديثة التكوين بغية تفكيك التنظيمات الذاتية المسلحة للجماهير، في وقت كان مهندسو النظام القائم يقومون بترويض وتدجين القوى السياسية والنقابية القائمة آنذاك تحت مظلة “الوحدة الوطنية” مستفدين من خبرات أسيادهم الإمبرياليين في هذا الباب.

لا زالت تتردد على مسامع هذا الجيل كلمات “سلطان” الاستعمار الجديد سنة 59 الموجة للجماهير المعتصمة بأعالي جبال الريف الشامخ “لا نسمح لأي فرد ولا جماعة من الدجالين ودعاة الفتنة والتفرقة بالاستمرار في مخادعة الشعب وتغليطه ومواصلة أعمالهم الهدامة والتآمر على وحدة الوطن واستقلاله. ونحن عازمون على استعمال كل الوسائل للضرب على أيديهم الأثيمة ووضع حد لجرائمهم. (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم)”، لقد كان يدعوا ساكنة الريف بالنزول من الجبال والعودة إلى “جادة الصواب” بالرجوع إلى بيوتها والقبول بالحياة الشاقة والرضوخ لمشيئة المخزن المستبد، وهو ما لم يقبله الريفيون أحفاد المقاوم الزياني والثائر الخطابي، لتشرع جحافل القوات المخزنية بقيادة السفاح الحسن في إبادة ساكنة الريف وإحراق القرى والمداشر واغتصاب النساء واختطاف الشباب والشيوخ وقتل الرضع، وشن حملة مسمومة ضد الريفيين الذين وصفوا بأوصاف احتقارية مشينة ومهينة مثل التي نسمع إياها اليوم من طرف الدكاكين السياسية الرخيصة من قبيل “مشعلي الفتنة” و”المخربين”، إلخ… مكملين ما بدأه الاستعمار، أو بالأحرى ما بدأه بوشتى البغدادي (الذي قاد حملة عسكرية وحشية على قبيلة ايبقوين الريفية خلال أواخر القرن التاسع عشر)، ويشهد التاريخ أن جماهير الريف لم تستسلم ولم ترضخ، بل قاومت إلى آخر رمق كل أشكال المكر والغدر والبطش المخزني.. هذا التاريخ سيظل مرسوما وموشوما في الذاكرة الجماعية الحية للشعب المغربي. وهذه الملاحم ستظل نبراسا ينير طريق المناضلات والمناضلين التي عبدها أجدادها المقاومين بدمائهم الزكية.

لم يقف مسلسل القمع مع انتفاضة 58-59 المجيدة بل استمر بعدها وبوثيرة أعنف خلفت انتفاضات فجرتها الجماهير ضد غطرسة الآلة الجهنمية للنظام القائم، نظام الحسن وأوفقير والدليمي، فكان الموعد هذه المرة في مارس 1965، هذا الشهر الذي عرف انتفاضة فجرتها الشبيبة المدرسية ضد السياسة التعليمية الطبقية، انتفاضة عرت عورة النظام وكشفت طبيعة الاستقلال الشكلي وعجز وانتهازية الأحزاب والنقابات، وكعادته تدخلت الآلة القمعية الجهنمية مرة أخرى في حق تلاميذ عزل في عمر الزهور مستعملة الرصاص الحي ونهج الاختطافات والاغتيالات.. إنها حلقة من تاريخ لم يدرس في المدارس والجامعات، ولم يروه جوقة المؤرخين الرسميين.. إنها نقطة سوداء في تاريخ أعداء الشعب المغربي، وملحمة أليمة ومريرة، بطلها الرصاص، وكاتب قصتها الحرمان والخذلان، وفصولها تمتد لسنوات لا يمكن التصالح معها، ونحتاج معها لغسل الدماغ كي تسقط من الذاكرة.. ولن تسقط.

إن الجيل الحالي لا ولن تفارق ذهنه تلك المشاهد المأساوية في شتاء 84 البارد، الذي تحولت فيه شوارع الناظور والقصر الكبير والحسيمة… إلى ثكنات عسكرية سالت فيها دماء خيرة بنات وأبناء هذا الوطن المكلوم، في ظرف كان فيه عموم الشعب المغربي يختنق نتيجة سياسة التقويم الهيكلي المملات من طرف مؤسسات أسياد النظام الإمبرياليين، إنه جرح آخر لم يندمل رغم وصفات “العدالة الانتقالية” و”الإنصاف والمصالحة” و”طي صفحة الماضي”، ولن يصالح أو يهادن الأعداء الذين وصفوا شعبه بـ”الأوباش” الأعداء المستعدون للتخلص من جزء من الشعب كي “يعيش” الجزء الآخر، الأعداء الذين مارسوا ولا زالوا يمارسون كل أشكال التعذيب (“الشيفون”، “الطيارة”، “الفروج”…) في حق خيرة أبناء هذا البلد.

لن ينسى هذا الجيل الدماء الزكية لبنات وأبناء الشعب المغربي البررة التي اختلطت بدماء أطفال الحجارة الفلسطينيين يوم 20 يناير 1988 بساحة “20 يناير” بظهر المهراز بفاس، هاته الساحة التي لا زالته شاهدة على جريمة النظام الصهيوني في حق الجماهير الطلابية التي اقترفت ذنب مساندة كفاح شعب احتلت أرضه وديست واستبيح دمه من قبل الكيان الصهيوني الغاشم، شعب شرد في مخيمات اللجوء، وشاهدة على فصل من فصول عمالة النظام لأعداء الإنسانية من جهة، وفصل من فصول الإخلاص والوفاء للقضية الوطنية الأولى للشعب المغربي: القضية الوطنية، من جهة ثانية.

لن ينسى “كومونة فاس” وشعارات التلاميذ: “عطينا وعصينا فـ 14 دجنبر…” ودماء الكادحين التي روت “باب الفتوح” و”باب الخوخة” و”سيدي بوجيدة”، ودوي رصاص العسكر الآتي من الصحراء الغربية، والمقابر الجماعية التي دفن فيها أبناء الشعب أحياء من طرف القتلة الإرهابيين، لا زال يتردد على مسامعنا ونردد في نفس الآن “إشهد يا دجنبر في يومك 14، وطني أنار الدرب والنصر مشتعل، من يقظة الفلاح، من صرخة العامل، من ثورة الجمهور يا شعبنا البطل…”

لن تفارق ذاكرته مشاهد انتفاضة آيت باعمران المنتمية للمغرب “غير النافع” التي قدمت للمناضلين درسا ثمينا للنهوض بالنضالات الشعبية، درس مفاده: ليست الخطابات الحمراء والإضرابات الصفراء هي التي سترفع الوعي الطبقي وتفرض التنازلات على العدو، بل الإرادة الشعبية المنظمة وتوجيه النضال نحو هدف واضح بشعار واضح، وذلك في الشارع، من أجل فرض ميزان قوى لصالح الطبقات الشعبية على الأرض يفتح الآفاق الرحبة من أجل التحرر والانعتاق.

لن ينسى هذا الجيل والأجيال التي سبقتها والأجيال القادمة انتفاضات جماهير شعبنا العظيم في كل شبر من هذا الوطن الجريح وعلى امتداد التاريخ الأسود للنظام.. في إسلي وإيميضر والشليحات وبني بوعياش وتازة وتماسينت والحسيمة والناظور وصفرو وأكنول وبورد وتيزي وسلي…

وصولا إلى انتفاضة 20 فبراير المجيدة، التي فتحت صفحة أخرى مشرقة دونت بدماء الشهداء: فدوى وكريم وكمال ونبيل وعماد وجواد وجمال وسمير، واللائحة طويلة. في زمن “الشعب يريد إسقاط النظام”، هذا الشعار الذي ألهم الشعوب التواقة للتحرر والانعتاق، مفندة (أي الانتفاضة) أسطوانة “الاستثناء المغربي” و”العهد الجديد”، وكاشفة لطبيعة النظام القائم الذي كان “بارعا” في الجمع بين أسلوب القمع المدروس من جهة، والمناورة من جهة ثانية، ونهج أسلوب الاستنزاف من جهة ثالثة.

وها هو اليوم الشعب المغربي في الريف وباقي المناطق ينجز شوطا جديدا ضمن السيرورة الثورية وماض في نضاله العسير، يشق طريق الخلاص والتحرر بثبات وعزم، متجاوزا كل القوى المتصدعة التي جندها النظام لكيل التهم والإشاعات المغرضة في حق أبناء الريف، مثل التي اتهم بها أجدادهم من قبل، وكأن التاريخ يعيد نفسه هذه المرة كمأساة، منتفضة في وجه إرث ثقيل من التهميش والإقصاء والحرمان ومتحدية كل أشكال القمع، من اختطافات واعتقالات وتعذيب..

إن الأحداث المتسارعة اليوم تؤكد أن مشروع النظام المخزني يتعثر، وعزلته تزيد، وتناقضاته الطبقية تتفاقم وتتعمق، ومقابل هذا التأزم، يختزن الشعب المغربي استعدادات نضالية هائلة ستقوده إذا أحسن استثماره إلى الخلاص من نير الاستعمار الجديد الجاثم على صدره.. فالنظام رغم كل الوصفات: “الوحدة الوطنية”،”المسلسل الديمقراطي”، “التوافق”، “الإجماع”، “العهد الجديد” ها هو اليوم يعيش بداية نهايته المحتمة، ليتأكد بالملموس الدرس التاريخي الذي يؤكد أن أنظمة الاستبداد مصيرها مزبلة التاريخ والنصر حليف الشعوب.

بصمودنا ومقاومتنا سنتقدم في مسيرة التحرر الشاقة.. بتواجدنا في قلب معارك شعبنا وفي خط المواجهة الأمامية مع العدو الطبقي سنفتح طريق التغيير الثوري. سنظل أوفياء لما عاهدنا به شعبنا بالأمس، وأوفياء لمواقف منظمة إلى الأمام الثورية التي قالت ذات يوم”يجب أن تنتظم هذه الجماعة الصغيرة التي تشكل اليسار الماركسي-اللينيني، والتي يحاصرها الأعداء من كل جانب، في شكل جيش صغير، ولكنه قوي وعنيد، ذو إدارة صلبة وعزيمة لا تقهر، يغير أشكاله النضالية بمرونة فائقة وفقا لتغييرات ظروف النضال، اليوم ببناء قواه ولحم صفوفه واستخلاص الدروس من المعارك السابقة، وغدا يهجم وفق شروط جديدة ويقاتل بشراسة وبراعة، إن هذا الجيش صغير وصغير جدا، ولكنه ما أن ينتظم أشد تنظيم ويلتحم بأشد الروابط مع حركة الجماهير، وفي مقدمتها الطبقة العاملة، متسلحا بخطة مضبوطة واستراتيجية سديدة، حتى يصبح جيشا قويا، قادرا على مواجهة الإرهاب الفاشي الشديد، الذي لن يزيده إلا إصرارا وعزما على النضال، والقيام بمهامه في تطوير حركة الجماهير، وبناء الحزب البروليتاري الثوري، الذي لا ينمو إلا من خلال كفاح الجماهير الثورية نفسها من أجل القضاء على النظام العميل المتعفن وأسياده الإمبرياليين، وبناء الجمهورية الديمقراطية الشعبية : جمهورية مجالس العمال والفلاحين والجنود الثوريين.” (من وثيقة الوضع الراهن والمهام العاجلة للحملم، 6 أبريل 1973).

وأيضا “إن المناضلين المنحدرين من الشباب الثوري ببلادنا, أبناء العمال والفلاحين الذين أعطوا حياتهم في المعركة ضد الإحتلال الاستعماري, أبناء وإخوان أولئك الذين سقطوا برصاص الحسن في الريف وفي البيضاء, هؤلاء المناضلين ليسوا من الذين يخافون من مطرقة العدو. في المواجهة اليومية لجهاز العدو القمعي, سواء كان ذلك في ساحات الثانويات والجامعات, أو في الأحياء الشعبية, أو في المعامل وفي البوادي, أو في كهوف الكوميساريات وزنزانات السجون, سينصهر الفولاذ الأصيل الذي يسلح شعبنا, الفولاذ الذي يسلح ثورتنا. أكيد أن هذا الفولاذ غير كاف اليوم, ولكن الفولاذ الممتاز الذي يكون شعبنا يمنحنا ثقة في المستقبل.” (من وثيقة “لنبن الحزب الثوري تحت نيران العدو”، 1973).

16-07-2017

قد تعجبك أيضاً

اترك تعليقًا