الحلقة رقم1:
الرحلة من بني ورياغل إلى بني زروال، لم يكن الفرق في الطبيعة بقدر ما كان في الانسان، العربي زائد الغجري وقبله الأمازيغي والنتيجة مسخ لكل اللغات. لم ينج شبر واحد في المعمور من جحيم 45، الناس بدأوا ينظمون الهربات يخلون بلاد ويعمرون بلاد وهذه الهربات ساقت المعلم بنبلي إلى بني زروال حيث عثرن عليه بعض النسوة في ضريح مهجور كان يقصده أبناء السبيل كلما غربت عليهم الشمس وهذا الضريح كان يشبه البيت له أربعة أركان وسقف من الدوم مثقل بالأحجار قصده الشيخ ومعه الفتى، سل الشيخ عكازه من الشكوش وتفقد الزاد عبارة عن حفنة من التين المجفف وبعض حبيبات من الزبيب وكسرة خبز يابسة نصفها صالح للأكل من بعد أن تبتل بالماء وفي أحسن الأحوال أو أيام الأعياد أو مروا من مدشر به وليمة يكون حضهم الأوفر طويبات من السكر. وعاشوا طوال مدة الهربة على هذه الحال حتى زارهم ملاك الموت وهم نيام في الكوخ المسمى بالضريح، وإذا بالزائرات يقصدن الوالي للتبرك أو للشعوذة أو فعل كل ما حرمه الله، وجدن الشيخ جثة هامدة والفتى يلعب فوق صدره ويتساءل في صمت: لماذا طال نومه هذا الصباح؟ ومن حسن حض الفتى أن ملاك الموت لا يراه إلا من كان له موعد معه.
ولولت النسوة ضاربات بكفيهن على أفخاضنهن، إنهن فلاحات ماكرات بارعات في فعل الشيء ونقيضه، قالت إحداهن: إكرام الميت دفنه حسب الشريعة،ردت الثانية: الدفن مهمة الرجال، ورجالنا كلهم في بلاد السيبة ونحن في بلاد المخزه محاطين بالعبيد أو بأشباه الرجال. حسب الشريعة دائما ليس على المريض حرج… بدأ الشيخ يأسن، تركوه للدود والذباب الأزرق. أخذن الفتى وتوجهن مسرعات نحو دار الخليفة عميل النصارى. أمر الخليفة الخدم أن تعفى النسوة من الخدمة أربعة أيام . غادرت النسوة فرحات بالمكرومة وبدأ التحقيق مع الفتى: هل كان مع والدك تصريح عند دخولكم بني زروال؟
أجاب الفتى : أنا من أجدير
أمر الخليفة الخدم أن يهيؤوا للفتى مكانا للنوم في انتظار حضور الترجمان.
مع اقتراب الفجر زار الفتى ملاك في صورة البطل، سلمه الرسالة: إن شهامة أهل الريف لا تسمح لك بالبقاء هنا. إمضاء رئيس الجمهورية الريفية محمد بن عبد الكريم الخطابي.
الحلقة رقم 2
عاد بنبلي وهو في كامل رشده أشياء كثيرة تعلمها مع جحافل الهاربين، رجال، أطفال ونساء. غبار النقع أتلف كل الشرائع ودس بالأقدام ثنائية الحلال والحرام وحلت محلها ثنائية الطايح أكثر من الواقف طبعا لكل عصر ثنائيته، مقاومة النصارى أهون من مقاومة العملاء أبناء الزانيات قصوتهم لا حدود لها.
كان المعلم بنبلي يعلم علم اليقين أن حكاية ( إقرأ..ما أنا بقارئ) تمت في باطن الأرض حيث بحر الظلمات، لكن معجزة بنبلي أبت إلا أن تكون فوق الأرض وتحت الشمس، لحظة عموديتها لأن بنبلي يمقت الكولسة رغم بعده عن العاصمة.. خيل له أن الوحي والسمو لا يأتيا بالبكاء والصراخ.. رفع رأسه وجال ببصره ، لمح جبل ودكة في شموخه يراقص النجوم.. بدأ بالصعود.. بلغ القمة.. ثبت البوصلة.. أخذ يقيس الرياح أيها أنسب، الغربية تحمل الندى وهواؤها منعش، لكن عواصفها هوجاء.. حتما ستتبعثر الرسالة. والرياح الشرقية يكابد حرارتها ما دامت تأتيه عبر سلسلة جبال الريف.. أتاه ما يشبه الوحي بأن عدد النجوم وخرائط الكون يلزمها تقويم كان يوما مقداره خمسون ألف سنة.. سقط مغمى عليه.. تذكر زروال أو بنبركة أو غيفارا، وكل من واجه الموت وحيدا.. نهض وعاوده الدوار.. وقعت قدمه اليسرى على العمامة الكبيرة التي كان وزنها يعادل نصف وزنه.. لم يتأثر لأنه كان متيقنا من طهارته.. لف العمامة من جديد.. بدت له المهمة معقدة لأن جبرائيل لا يبالي بالمكان.. إنه يتجول في سبع سماوات وسبعة بحور وسبع أراضي.. ازدادت حيرته.. سمع صوتا قائلا: في أي مكان أنت يا بنبلي؟، قطعا سيزورك جبرائيل أو عزرائيل.. إن دورتهم متوازية.. نظر إلى الأسفل.. الناس حفاة، وزاد من قلقه أنهم عراة.. همهم بنبلي: سأقوم بكسوتهم حتى يعودوا لصلاتهم وركوعهم دون حياء من كشف عورتهم ليدعوا لي في اطمئنان، أنا متخوم بمثل هذه الأخلاقيات.. سمعتهم في الهربة يقولون بأن دعوة المظلومين ليس بينها وبين الله حجاب.. هكذا كانوا يقولون. لكن أنا محاط بالبؤساء والمشردين وشعارهم سيكون: لا للركوع، لا للسجود. سنتلوا الدعاء واقفون شامخون. وستكون قبلتهم غربية لا شرقية.
الحلقة رقم: 3
كان للهربة تأثير كبير على تنشئة بنبلي، كفضل الحوت على يونس وفضل الصندوق على موسى.. أشياء كثيرة تعلمها بنبلي من الأنبياء. يونس يصارع في البحر وموسى يصارع في النهر، وبنبلي يصارع أمواج البشرية في اليابسة.. تعلم حرفة الحياكة وأصبح درازا ماهرا يضاهي أولاد أزام، ويجادل في الدين، ووجود الله من عدمه انطلاقا من ( ولكم في الحياة قصاص يا أولوا الألباب )، حيث بدأ بعلم الناسوت دون تفريطه في اللاهوت وعبره سيصل إلى مقام الأنبياء.. حط الرحال في الكدية الحمراء وكان بارعا في اختياره الموقع حيث الربوة متوسطة العلو بين أربعة مداشر وأخذ نفس المسافة التي تفصله عن كل دوار، ليثبت للجميع على أنه في حياد تام.. بنى كوخه فوق المرمة (آلة النسيج العتيقة).. شاع خبره كالنار في الهشيم.. بدأت أفواج الزبائن تتقاطر عليه حتى من خارج القبيلة قائلين له: الله يرحم والديك ألمعلم هنيتينا من ولاد أزام. كانت للعبارة مفعولها السحري.. برز صدر بنبلي كالديك الهندي.. يلتف شمالا ويمينا.. يرفع رأسه ثم يطأطئه في حركات بهلوانية لا يفك شفرتها إلا حكيم بوذي.. كان بنبلي غريبا في كل شيء.. ينام ويستيقظ على صياح الديك البري الذي يلتقط العقارب وكل الحشرات السامة حتى لا تلسعه.. وبركمة في الترعة باسطة ذراعيها، مرحبة بالضيوف، كلما حركت ذيلها كان ذلك عربون على قدوم الزبائن، يستقبلهم بنبلي قائلا: تفضلوا بركامة ليست غدارة.. يخفون خوفهم ويقفون مندهشين وبنبلي يمسك قضيب الخيزران موجها إياه نحو صدورهم تارة، وأعناقهم تارة أخرى قائلا لهم : إنكم أفخاض غير متجانسة.. القمل الأبيض يدل على فخضة، والقمل الأسود يدل على فخضة أخرى ومن يتطاير فوق رأسه البرغوث يكون حديث الاقامة من فصيلة السراح أو الرباعين أو خماسة أو عطارة أو حتى طالب علم.. وقفوا فارهين أفواههم عاجزين عن الكلام.. جف لعابهم ثم قالوا: يا إلهي هل هو عالم الأعراق والأفخاض؟ سلموه الصوف.. قال الفطن فيهم: متى سنعود لاستلام جلاببنا؟… وهموا بالمغادرة.. أراد بنبلي أن يفتخر بمعجزته قائلا: اسمعوا إياكم أن تقتلوا القمل، إنه يقوم بتصفية الدم.. الأسود يصفي الكريات الحمراء، والأبيض يصفي الكريات البيضاء، والصيبان يتدرب في جلودكم.
الحلقة رقم: 4
بلغ إلى علم الشيخ المفضل الإهانة التي تلقتها الرعية عندما كان بنبلي يرصد حركة القمل في عنوقهم وصدورهم.. كان الشيخ المفضل شديد الحزن منذ أن تلقى الانضار في (البيرو) من الحاكم المفوض لارتكابه الخطأ المهني، أصبح الخبر شبه مؤكد يتداوله الخاصة والعامة.. أراد أن يستثمر الحدث لصالحه.. قرر أن يؤجج القطيع (الرعية).. طلب حضور البراح – الله أكبر خير إنشاء الله- الشيخ لازالت له الحقيبة والحبر والقلم، والحاضر يبلغ الغائب، احلقوا رؤوسكم صغيرا وكبيرا ويوم الجمعة بعد الصلاة سنذهب جميعا صوب هذا الغريب، وستكون مسيرتنا على الشكل التالي:
أنا خلف الامام، والرجال خلفي، والأطفال خلف الرجال، ونساؤكم في أحلى زينتهن، طالقات العنان للزغاريد وبعد رفع الأذان طوقوا الكوخ بإحكام طبعا بعد ذهاب بركامة للصيد لأن المعركة مع الكلاب غالبا ما تكون خاسرة خاصة إذا كان لها جراء صغار، تكون شرسة خوفا من إصابة الامام بالسعار.. وصلت الجحافل مدججين بالعصي والهراوات، أما الامام يمسك تسبيحه ويتأمل ميزان القوى.. بركامة في الترعة كعادتها، هذه المرة لم تكتفي بتحريك ذيلها.. نهضت ثم دخلت مسرعة، نباحها يوقظ الموتى.. لم تمهل بنبلي الوقت حتى لارتدائه ملابسه الداخلية.. خرج كيوم ولدته أمه.. وقضيبه في قمة الانتصاب وبه سيلان خفيف.. أشياء كثيرة خطرت بباله – هل هذه الهربة نحو الريف في الاتجاه المعاكس؟، أم حلق الرؤوس هذا مهمته إخفاء آثار القمل؟ –
قالت الجماعة: ها قد أصبح لنا إمام وشيخ قيد الترسيم، طبعا بعد إثبات برائته.
رد بنبلي: أنتم قوم (أولاد صالح طهطاي…).. أحس ببرد شديد ينخر العظام.. بدأ عضوه التناسلي بالنكوص.. إحدى خصيتيه انزلقت نحو الصرة.. سقط الحجر الأملس من يد الإمام.. أخذ يفرك عيونه.. التسبيح على صدره وفمه مفتوح.
قال بنبلي: إمامكم هذا لا يفقه في ثقافة الجسد ولا علم له بعصر الباروك.
بدى بنبلى كآدم بعد أكله التفاحة وك قيانوس إله البحر عند الإغريق.. أشار بأصبعه نحو بطنه السفلى، ورفع يده اليسرى فاتحا الخمسة، ثم قال: أنظروا قمر الحنة.
إنه في شهر العسل.. أذن لبركامة بالانصراف شاكرا لها على تضامنها المطلق معه.. طوت ساقيها الخلفية وذيلها نحو الكوخ.
استدار بنبلي نحو باب كوخه.. رفع إمامهم الأذان ثم أمر بإقامة الصلاة وتأجيل المقابلة.
الحلقة رقم: 5
استيقظ بنبلي في اليوم الثاني، وقام بدورته الطقوسية حول الكوخ ثم ربط خيوط المنسج، ووضع -أولال في مكانه- وأغلقه بإحكام.. همهم بنبلي: الماء والعواد والرزق على الجواد.. علاقته بالسماء علاقة عمودية، ولم يثبت أنه قام بالصلاة مع أي جماعة، رغم أنه يدفع بسخاء أجر الفقهاء الأربعة.. نادى على بركامة.. أتته مسرعة الخطوات.. قام بلمسها وطبطب على ظهرها من عنقها حتى منبت الذيل.. تبادلا النظرات .. استغرق مدة طويلة وعيناه في عينيها، يتلي أمامها ما يشبه البيان العسكري.. عدديا كان ميزان القوة لصالحهما، وغاب عن بالهما أن العبرة بالنوع.. معسكرهم لم يتأسس بعد..إمامهم لا يفقه شيئا في قواعد الحرب.. والشيخ المفضل قريبا سيترك الحقيبة.. إنه مطلوب لدى المحكمة ليمر في المجلس التأديبي، في أفق أن يصبح من المدافعين الكبار عن العرش والاسلام حسب البيداغوجية الكلنيالية. ويكون من شرذمة الزاحفين على بطونهم للظفر بالجلوس قرب موائد الشواء في الخيم المبرقعة يوم 3 مارس من كل سنة ميلادية، وفي انتظار أن يذكر إسمه في قرعة الذهاب إلى الحج المنظمة من طرف وزارة الشؤون الاسلامية، ليصبح أسمه الجديد: (الحاج الشيخ السي المفضل).
لكن بنبلي لا يتعلق بالهش. لقد بصق على كل المهرولين.. قال لبركامة: من الآن فصاعدا إذا أتيت بالصيد ، سأقوم أنا بطبخه.. وسأكتفي باحتساء المرق. أما اللحم، والعضام سيكون من نصيبك.
رزق بنبلي بمولود ذكر سماه الهربة وكناشه العائلي: (تناكحوا تتناسلوا) حتى تملأ سلالتنا الأرض.. العائلة لا بترياركية ولا نووية، تناكحوا تتناسلوا.. ازداد له المولود الثاني.. فرح فرحا كبيرا وذكره بالهربة.. ازداد مولوده الثالث، لكن هذه المرة أنثى.. غضب غضبا شديدا.. فكر في وأد المسكينة.. إنه يحتسي المرق وخصوبته في حالة جيدة.. تعذر صفاء العرق إذن.. الأحفاد لا يأتون من الفرج.. وحكاية مثنى وثلاث ورباع للزيادة في الخلق، زمانها قد ولى مع أبي هريرة ومسيلمة الكذاب.. أقسم بنبلي أن لا تنال منه مثل هذه الأساطير، وبقي وفيا لقسم الهربة في الزمان والمكان.. قرأ في الكلام المأثور أن تبديل المنازل راحة.. قالها في قرارة نفسه وهو إذا قال شيئا فعل.. ترك الكدية الحمراء تتناطح فيها الرياح، الشرقية والغربية.. حط الرحال في منحدر القليعة بجوار الشرفاء العلويين.. إنه دائما يقف في صفوف الضعفاء.. العدل هو التوازن في كل شيء.. البشر سواسية، والفرق بين الأبيض والأسود لا يكون إلا في القمل.
الحلقة رقم: 6
حط بنبلي رحيله في منحدر القليعة موطن الشرفاء العلويين الوافدين من الصحراء، من سلالة سيدي عبد الرحمان أبو البركات.. هاجر الابن الأول سيدي احمد الشريف الكائن ضريحه بدوار الزاوية، والابن الثاني سيدي أبو القاسم العلوي الكائن ضريحه بدوار القليعة.. زد على هذا أن هذا الدور هو نقطة ارتكاز باقي الدواوير العلويين.
استقر اختيار بنبلي في دوار الهدارين.. هذا الاسم يطلق عادة على مجموعات سكنية صغيرة لا ينتمون إلى السكان الأصليين، وقملهم في مرحلة الصيب لا وقت لديهم للراحة،لأن في العرق المالح يختنق القمل، لكن الصيب يقاوم العرق،لأنه يسكن في منبت الشعر المتواجد بين الابطين وكذا أسفل البطن، ومينورا لم تكن متوفرة في الأسواق الأسبوعية.. الهدارين خيامهم معدودة على رؤوس الأصابع وليسوا على ملة واحدة.. كبيرهم محمد الهدار، يعتبر النواة الأولى ودينه اليهودية، في سرية تامةحيث يشاع أنه من يهود ولاد عمران المتواجد في قبيلة الحياينة.. أشياء كثيرة تدل على أنه كذلك.. يقوم بتدجين الحيوانات بمختلف أنواعها. رغم ثرائه لا يتوفر على براد وصينية، حتى السكر هو حرام حسب ديانته.. كان الناس يقترضون منه المال بالريبة، ومن لم يستطع التسديد في الوقت المحدد.. يستحوذ على قطعة من أرضه، أو رأس من البقر.. هكذا أصبحت له أراضي شاسعة وقطعان من الماعز لا تعد ولا تحصى.. أما محمد المعلومي جاره الأقرب لا دين له ولا يشبه والدته (خالتي شامة حبيبو) في شيء.
كان شعارها (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك ستموت غدا). تركع بالوقت أو بدون وقت.. وكل الوجهات قبلتها.. في أغلب الضن كان إسلامها شافعي، تكدح وتعمل، عكس المذهب المالكي الذي يحرم على المرأة كشف أطرافها، ربما تكتفي المرأة المالكية بإعطاء فرجها لمن يدفع أكثر. إلا أن (خالتي شامة حبيبو) الشافعية. تبدي أطرافها وتصون فرجها والحق يقال.
الحلقة رقم: 7
كانت خالتي شامة تصلي في كل الاتجاهات قبل الآذان أو بعده.. تقويمها كان يوم بمقدار خمسون ألف سنة والناس يقولون أنها شافعية،نسبة إلى الإمام الشافعي في اعتقاد منها أنه أكثر تحررا من الامام مالك.. إنه دين غير الصلاة في وقتها.. وحدها عملية الانتاج يكون فيها عنصر الزمان أحد أركانها حسب علم الاقتصاد..قصمت خالتي شامة وقتها للصلاة وجلب الحطب.. كان بعض الميسورين من الشرفاء العلويين خدام الاستعمار، يدفعون لها 25 فرنك مقابل كل قتة.. وكان لها عمل إضافي معهم، في حالة الوليمة والفرح تقوم بغسل الأواني وتنضيف الثياب والزرابي. ومرسولة لدعوة نسوة الدوار، يستقبلها الأطفال متسارعين لتقبيل يدها اليسرى، أما يدها اليمنى فتكون منشغلة بإخراج الحلوى من كيسها لتوزعها عليهم، قائلة لهم: بلغوا أمهاتكم وأخواتكم الكبريات أنه مرحب بهم في دار الشرفة.
انتقلت خالتي شامة إلى الحومة المجاورة وكيسها فارغ.. هملها الأطفال ونهشها كلب مسعور من ساقها.. بدا على جبهتها العرق المثلج.. هيؤوا لها القبر وأحضروا التين والخبز.. نادوا الامام لتأدية صلاة الجنازة.. قال الامام: أنا لا علم لي بقواعد الشافعية، أنا مالكي ملكي، والوقوف على شامة يعد من الكبائر وحتما ستدخلون النار قبلها.. تبادل المشيعون النظرات بينهم متعجبين من هذا الكلام.. ما يقوله الامام لا جدال فيه، لكن ما العمل؟ وقطعان الكلاب تتربص بالجثمان وأسراب الغربان تحوم بالمكان.. أدركهم الليل.. انصرفت الغربان.. تقدمت الكلاب، والمشيعون لا يستطيعون المغادرة دون إذن من الامام.. أعياهم الوقوف وغلبهم النعاس.. رفعوا نشيد اللطيف.. جثمان خالتي شامة، الطاهر فوق النعش.. هبط قوس قزح من السماء في شكل عمودي.. فقد المشيعون بصرهم، والكلاب تحنطت.. ألصقت أذيالها بالأرض على شاكلة أبي الهول.. قال الإمام إنها حقا والية الله لهذا رفعت إلى السماء.. قالها وانشطر لسانه إلى نصفين، الأول للامام مالك والثاني لمدح الملك.. بدأت الشمس حدادها. والقمر نصفه مظلم.. وقع خلل في التقويم.. وخالتي شامة كانت دائما تدعو في صلاتها قائلة: الله يدينا في الضوء.
ولا زال الناس لا يعرفون هل ماتت خالتي شامة، أم رحلت خالتي شامة.
الحلقة رقم: 8
أصبح مكان قبر خالتي شامة مزارا للشافعية، يشد له الرحال أتباع الامام الشافعي من كل المعمور.. معجزة هذا المكان هو أنه يوحد لون القمل.. مراسيمهم حلق الرؤوس والمشي على الأقدام حتى يكون العرق دائم الافراز.. بدأ القمل ينزلق، منه من يسقط على الأرض ومنه من يذهب مع الرياح.. من يسقط يتحول إلى عقارب، ومن تدفعه الرياح يتحول إلى خفافيش الليل.. بدأ الزوار يأتون محملين بالهدايا والقرابين.. خالتي شامة ليس لها وارث . مع العلم أن لها ابن، لكنه لا يرث فيها لأنه مختلف عليها مذهبيا.. المالكيون لا يرثون في الشافعية.. تلقف الخبر (خالي حميدو حنانو).. فرح فرحا شديدا وتذكر الطبل.. كان مهمل في ركن كوخ تسكنه العنكبوت.. جلده مهترئ.. رتق الحبال ونجر العصي.. بدأ بقرع الطبل وزوجته أمامه حاملة المصباح البترولي في واضحة النهار.. دليل على حدوث شيء غير معقول.. خرجت حومة الهدارين عن بكرة أبيها.. وقفوا مندهشين متأملين المشهد.. (خالي حميدو حنانو) يقرع الطبل، و(خالتي فاطمة الغالية) رفعت القنديل في الهواء.. قال المتجمهرون حولهم: مساكين إنهم في أرذل العمر.. أنهي الحفل والناس في حالة دهشة وابتهاج.. سلم حميدو الطبل لخالتي الغالية، وتناول الكلمة: عليكم أن تحضروا البراح لتعرفوا القصة.. الأغنياء يستعملون المنبر والمساكين يعتمدون على حناجرهم.. قال حميدو: أنا الوريث الشرعي للوالية خالتي شامة.. وقف أمام الكلاب المحنطة التي أصبح نصفها رخام والنصف الثاني من النحاس.. تلا خالي حميدو بيانه الختامي.. أذن للبراح بالجلوس مع عامة الناس.. اسمعوني جيدا، أيها الزوار: كل من فيه بوحمرون أو جذام أو سعار وأراد التقرب مني أو معه هدية (دجاج،شمع،بيض….). فليضعها في مكان القبر المقدس، وليقم بتقبيل رؤوس الكلاب السبعة المحنطة وليركع أمامي سبع مرات آنذاك سيعود كيوم ولدته أمه.. اهتزت أركان الزوايا الموزعة في قبيلة بني زروال عند سماعها الخبر.. الزاوية الدرقاوية خادمة النصارى، وضريحها مولاي العربي الكائن بقبيلة بوبعان. والزاوية الحمومية، قطاع الطرق ، الكائن ضريحها سيدي محمد بن الحسن بقبيلة بني ملول. والصافيون وضريحهم مولاي بوشتة الخمار الكائن بقبيلة فشتالة وبركاتهم تخصيب النساء العاقرات خاصة منهن حديثات العهد في الزواج، أبناء العاهرات يزنون مع المحصنات.. أجمعوا على إعلان حرب بلا هوادة على منافسهم الجديد، مستكرين وجوده بقولهم: متى كانت حمالة الحطب وقارع الطبل أولياء.
الحلقة رقم: 9
ظهرمن جديد مطلا على ساكنة الهضارين شكله الخارجي مختلف.. لم يكن مرتديا جلبابه المفضلة، وتركه العمامة وحده كافي لإثارة لغط الساكنة.. وقف بنبلي في ملتقى الطرق الثانوية والرئيسية متأملا إيقاع الحياة الجديدة.. الكبار حاملين محارثهم على أكتافهم، والصغار يسوقون قطعانهم.. العصى في أيديهم اليمنى وكسرة الخبز في اليسرى.. كاد أن يطير فرحا.. إصلاحاته أصبحت حقيقة على اﻷرض.. هاهو العرق يطرد القمل.. الصباح باكر والبرد خفيف.. بنبلي لن يطيل الوقوف في لحظات الذروة.. همهم بنبلي وهو يشير بأصبعه إلى أذنه مخاطبهم: أنظرو إليها إنها مثبتة في مكانها.. الرسام اﻹطالي (فانغو) لا يشبهني في شيء.. هو بدء بالحلم وإنتهى باليأس والجنون، ثم بتر إحدى أذنيه وقدمها هدية لعاهرة كان قد وقع في حبها، هكذا قالها بنبلي واختفى.. نادته زوجته المخلصة خالتي رحمة ليباشر زبائنه.. كان درازا ماهرا يشبك الخيوط بمختلف ألوانها وحجمها كانت له خيوط من نوع آخر.. عبرها يبعث بالرسائل ويستقبل أخرى، من خلال الزبائن الذين كانو يأتونه من كل المداشر.. يسألهم عن الأحوال، يقولون: لا بأس علينا.. مساكين يجهلون اﻷحوال التي يقصدها بنبلي وفي ليلة دامسة وصامتة كصمت المقابر، حط فوق البطمة طائر كبير منقاره أحمر وصدره أبيض وجناحيه سوداوين وذيله بني وله مخالب حادة تفتك الجيف.. اعتبره بنبلي نذير شؤم وقد يكون طائر الهربة، أو هي لعنة الزوايا التي اخترق مجالها دون طلب الإذن، والزواية لها أضرحة، لكل ضريح قبة وكل قبة فوقها ركيزة معلق عليها قطعة قماش وكل قماش له لون وهاته الألوان كلها اجتمعت في ريش هذا الطائر العملاق، يأكل الحي قبل الميت.. يقولون عنه إنه يشرب الدم ويأكل اللحم ويلقي بالعضام للنمل.. قص عليهم إمامهم في إحدى خطب الجمعة من فوق المنبر أنه رأى في منامه طائر يسمونه أهل الحديث وأصحاب السنة أتباع الصحابي الجليل ابن تيمية، الرخ. حجمه يغطي نصف الكرة الأرضية يحجب الشمس كلما فتح أجنحته، وهو يطوف بجهنم، إذا حاول الكفار الهروب من لهيبها و عذابها أفرادا أو جماعة، يلتقطهم بمخالبه ويعيدهم إلى عمق الجحيم.. ونصيحتي لكم لا تخرجوا دوابكم وبهائمكم إنه متخوم بأكل الجثث بالريف، وما قدومه إلينا إلا من أجل أكل اللحم الطري والله أعلم.. طلب بنبلي مناظرة مع هذا الدجال.. الطائر لا أسطوري ولا خرافي كما ادعاه هذا المهتوه إنه مجهز بالتليسكوب يقوم بجولات إستكشافية لصالح العدو وكان عليه أن يقول لكم إذا أردتم طرد هذا الطائر دون رجعة جهزوا بنادقكم وأسلحتكم وأرصوا صفوفكم في الجبهة لا على الحصير خلف هذا الكذاب، وإذا كان من دعاة العلم فليدلنا على جنسه..إذا كان ذكر أين أنثاه؟ وإذا كانت أنثى أين ذكرها؟ والطيور لا تعيش فرادى إلا إذا كانت مدجنة في اﻷقفاص كما إمامكم هذا.
الحلقة رقم: 10
أدرك بنبلي أن الفكر يصبح قوة مادية عندما تعتنقه الجماهير.. قالها بالفطرة وبدأ يلملم أغراضه.. فتح الحقيبة واضعا في داخلها الزاد وكل ما يحتاج إليه.. بدت له ثقيلة، لا يقدر على حملها.. كانت له دابة صغيرة (حمارة).. دخلت على الخط زوجته خالتي رحمة قائلة: الدحشة المسكينة لا تقوى على حمل الحقيبة والأغراض الأخرى.. انتفظ في وجهها قائلا: متى كنت أشفق مني على الحيوانات؟، ومن كان يأتيها بالماء والأكل ويتفقدها بالليل؟.. ردت عليه رحمة: اسمعني أيها المعلم لأقول لك ما هو أهم. أجاب بنبلي: حتى أنت أصبحت تدركين ما هو الأهم والغير مهم.
الزوجة: نعم سأقول لك ما كان عليك فعله، من المفترض قبل أن تصلح أحوال العامة وجب عليك إصلاح أحوال الشرفاء العلويين.
بنبلي: لم يحتاج الشرفاء إلى الاصلاح وهم أسياد القوم؟
الزوجة: إن أحوالهم سيئة ومنقسمين وغير معتصمين بحبل الله جميعا، فيهم من خان الوطن وخدم النصارى، وقليل منهم وطنيون.
جلس بنبلي القرفصاء وظهره إلى البطمة، وضع رأسه فوق ركبتيه، ثم ردد قائلا: أيوجد في سلالة أهل البيت من يخدم النصارى؟.. رفع رأسه ثم أشار إلى فمه..أدركت الزوجة أنه بحاجة إلى شربة ماء.. أحظرت له إناء من الطين مليء بالماء.. شربه عن آخره . بدأ يحدق في خالتي رحمة ويتساءل في قرارة نفسه: هل لعنة الزوايا بدأت تطارده؟ لأن زوجته رفعت صوتها في وجهه.. ألم يعد من معنى لمقولة (ألا لعنة الله على صوت المرأة ولو بذكر الله)؟، وحتى (لا أعبد ما تعبدون).. لم يعد كلام القرن السادس ميلادي يجد أذنا صاغية.
في منتف الليل طرق بابه زبون.. أوجس بنبلي في نفسه خيفة.. تشجع وقاوم الخوف الذي كاد أن يحول دون خروجه.
قال الزبون: اسمح لي على مجيئي في هذا الوقت المتأخر.
سلمه الصوف المغزول وفي داخله رسالة.. فتح بنبلي الرسالة، ووجد فيها أخبارا مفادها أنه: تم القبض على الوطنيين،و على رأسهم مولاي الشاهد ابن الصديق العلوي، و سيدي محمد ابن عبد الشافي العلوي… والمطلوب منك أن تذيع هذا الخبر على أوسع نطاق.. أعلم كل الزبائن وحرك كل الخيوط التي نسجتها في موقع القليعة.. ومن الآن فصاعدا ستكون واحدا من أفراد خلايا المقاومة.. إن المجاهدين لن يتخلوا عنك، كلما دعت الضرورة للعون أو الارشاد، ولا تفوت صلاة أي جمعة سواء مع من يدعون للسلطان محمد بن يوسف، أو مع الذين يدعون مع السلطان محمد بن عرفة.. وليكن في علمك أن الجوامع والمساجد وبيوت الله منقسمون، ونفسية الأمة دائما تنتظر حسم المعركة لتقدس من يستعبدها.. إنها كأنثى الحيوانات تمنح ذاتها للقوي، متلذذة بالذل.. وفي الأخير نبلغك السلام وسنزورك بشكل دوري.