عند النظر الى وضع اليسار ببلادنا يجمع الكل على حقيقة التشظي و التشرذم.و هي وضعية غير سليمة لأنها تعرقل تطور الصراع الطبقي بل تلعب دور دعم وتقوية المعسكر الرجعي وتمد من عمر النظام .فما هي اسباب هذه الظاهرة وكيف يجب النظر اليها و ما هو الموقف المبدئي منها؟
ان تشرذم اليسار يجد اسبابه العميقة في مستوى تطور الصراع الطبقي ببلادنا و الذي لم يصل بعد الى مستوى تحقق التعبير على نفسه من خلال الصراع السياسي لممثلي الطبقات الاجتماعية المتناحرة. فنمط انتاج الرأسمالية التبعية ببلادنا لا زال نسبيا حديث العهد، ويحكمه تناقض رئيسي ذلك الحاصل بين الكتلة الطبقية السائدة ممثلة في نظامها الملكي من جهة، ومن جهة ثانية بين كل الطبقات الشعبية (من طبقة عاملة وفلاحين فقراء وصغار ومتوسطين وبرجوازية صغيرة وحتى فئات واسعة من البرجوازية المتوسطة) .وعلى قاعدة هذا التناقض بين مصالح اغلبية الشعب مع تلك الاقلية المستغلة تشكلت مجموعتين من الاحزاب السياسية، منها مجموعة كبيرة من الاحزاب و القوى عبرت او طمحت للتعبيرعن مصالح تلك الطبقات المستغلة و المضطهدة وتبنت تعبيرات فكرية او سياسية متنوعة كالفكر اليساري الماركسي و القومي الى الفكر السلفي الليبرالي. اما النظام فهو الأخر استنبت احزابا من اجل استخدامها كإطارات للصراع السياسي و الفكري و كموظفين سياسيين و ايديولوجيين في مؤسساته الشكلية و الصورية.
ففي مجتمع يحكمه هذا التناقض و بفعل تطور المصالح الطبقية و تنامي ازمة نمط الانتاج الرأسمالية التبعية تبرز عملية سياسية شديدة التعقيد نتيجة الدينامية الطبقية اسفرت و لا زالت عن فرز فئات اجتماعية تتدهور و تنزل سلم الترتيب الطبقي و فئات اخرى تترقى و تحتل مراتب متقدمة و تندمج مصالحها مع مصالح الكتلة الطبقية السائدة. وبالنتيجة تحصل اصطفافات سياسية و تمزقات لكيانات و احزاب كانت منسجمة البارحة و صارت متشظية و مفتتة اليوم.هكذا اصبح اليسار نفسه مفتتا وباتت احزاب منه مثل حاضنة تفرخ احزابا و منظمات سياسية . حتى النقابات و الجمعيات الحقوقية والنسوية و الشبابية لم تنجو من هذا المصير البئيس.
اما التناقضات الجارية فهي غالبا ما تأخذ طابعا ثقافيا او ايديولوجيا وبذلك تصبح التناقضات الطبقية مغلفة او متوارية عن الانظار عند الرؤية السطحية الغير الدقيقة. ولكونها تكتسي ذلك الطابع الثقافي، فأنها سرعان ما تنحرف باصحابها الى منحى يغذي العداء للسياسية و للانتماء الحزبي، فتسود النزعة المحتقرة للأحزاب و تدفع في اتجاه الفوضوية و الانكفاء على الذات. لذلك بتنا نسمع بان اسباب كل هذا التردي هي السياسة والاحزاب وان كل اولاد عبد الواحد واحد.وفي هذا الامر لابد من الاقرار بان النظام استطاع تحقيق احد اهدافه من تلك السياسة التي دشنها منذ تفجر الصراع المباشر بين القصر و احزاب الكتلة الوطنية.كان من بين سياسة الارض المحروقة المطبقة ضد التوجهات المناضلة انذاك هي افراغ العمل الحزبي من كل مضمون نضالي او مطمح بناء احزاب ذات تمثيلية طبقية حقيقية لقد نجح الى حد بعيد في تحويلها الى احزاب شكلية لا يتعدى افقها الانخراط في المؤسسات و لعب الادوار الموكولة لها من طرف النظام.وبقبول تلك الاحزاب لعب هذه الادوار فانها ساهمت في تنفير القاعدة الجماهيرية منها عندما تأكدت وتيقنت بأنها فقط احزاب توزع الوعود و تفصح على برامج سرعان ما تتنكر لها و تتملص بشكل انتهازي من كل التزاماتها.هكذا فقدت اوسع الجماهير ثقتها في النظام وفي الاحزاب الملتفة حوله و اصبحت السياسة عبارة عن تقديم الوعود الكاذبة وعن الخيانة وخدمة المصالح الخاصة و التنكر للمبادئ انها نقيض القيم النبيلة.
فإذا كانت القاعدة الشعبية العامة قد فقدت الثقة في مثل هذه الاحزاب فان قواعدها المناضلة فقدت هي ايضا الثقة في القيادات و اصبح البعض منها يبحث عن البدائل من خارج هذه الاحزاب. ومن فداحة الضرر البالغ الذي اصاب تلك الاحزاب نجد ان من بين قياداتها من شجع على هذا التشرذم، كما فعل عبد الرحمان اليوسفي لما واجه المحتجين والغاضبين بعبارته الشهيرة "ارض الله واسعة".
و بالفعل انتشر هؤلاء في ارض الله الواسعة، فمنهم من اسس حزبا جديدا و منهم من التحق بصفوف اولئك الذين اعتنقوا الموضة الجديدة موضة اللاحزبية، و المناضلين الاحرار الغير منتمين لأي "دكان" سياسي كما يحلوا لهم نعت باقي الاحزاب السياسية. ان هؤلاء اصبحوا يشكلون نسبة مهمة و هي مرشحة للارتفاع.ان التخندق في طابور "الاحرار" وغير المنتمين حزبيا بات يوفر ملاذا لهؤلاء المناضلين ومن داخله اصبحوا ينتجون الافكار و يشكلون القناعات التي تبرر لهم موقعهم هذا.ومن هذا الموقع اخذوا يشكلون اطارات معادية للحزبية و يدعون لخوض النضالات اللاحزبية، و التحق بهذه الجوقة بعض المثقفين وهم ينظرون للحرية الفردية ويعلون من شان الفردانية ومعاداة الانتماء التنظيمي و الانخراط في العمل الجماعي المنضبط، لأنه يحد من الاستقلالية و من حرية الابداع والفرد و يمس بالشخصية المتضخمة لذواتهم.
شكلت هذه الفئة من المناضلين مجالا خصبا لاهتمام النظام و هو ما يمكن رصده من خلال تدخله الذي يجري على واجهتين مختلفتين لكنهما متكاملتين وهما:الاختراق من طرف الاجهزة الاستخباراتية و ذلك بغرض التموقع داخل الحركات الاحتجاجية بل اختراق الاحزاب المناضلة و الواجهة الثانية و هي استغلال ما يسمى المجتمع المدني حيث يجري تاسيس الجمعيات و النوادي واغداق الاموال الطائلة عليها فأصبحت فخاخا حقيقية تستقطب مثل هؤلاء المناضلين تمهيدا لإلحاقهم بصفوف الاحزاب الادارية المخزنية من بام وأحرار…الخ.
ان المتتبع لأنشطة هذه التنظيمات او المجموعات اللاحزبية يقف على طابعها البرجوازي في كل تحركاتها رغم ما يدعيه بعضها من جذرية و ثورية.فبرفضها الانتظام الحزبي اي الانحياز السياسي الى طبقة اجتماعية محددة فإنها تسقط عن وعي او عن غير وعي في خدمة السياسة الطبقية للبرجوازية ونظامها .
"ان من يخوض نضالا "لاحزبيا" من اجل الحرية، اما انه لا يدرك طابع الحرية البرجوازي و اما انه يقدس هذا النظام البرجوازي، و اما انه يؤجل النضال ضده، يرجى "ترقيته" الى موعد غير محدد و العكس بالعكس. فان من يقف عن وعي او عن لا وعي الى جانب النظام البرجوازي، فلا بد له ان يشعر بالانجذاب الى فكرة اللاحزبية" لينين الاعمال الكاملة مجلد 12 مقالة "الحزب الاشتراكي الديمقراطي و اللاحزبية الثورية".
ان تطور الصراع الطبقي يحتم تطور الصراع السياسي و بالتالي تطور التمثيلية السياسية للطبقات المتناحرة.و هكذا تصبح اللاحزبية و المعاداة للانتماء الحزبي فكرة و موقف برجوازي بل هي ممارسة رجعية تخدم سياسة اللامبالاة الطبقية التي هي كما فضحها لينين، لأنها تعتبر مساندة صامتة للبرجوازية.
"فان الاشتراكية الديمقراطية حزب البروليتاريا الواعية هو وحده دون غيره الذي دافع و يدافع على الدوام عن الحزبية الصارمة اما ليبراليونا، ممثلو نظرات البرجوازية فإنهم يمقتون الحزبية الاشتراكية و لا يريدون ان يسمعوا بالنضال الطبقي…"( نفس المصدر)
فإذا كانت اللاحزبية فكرة برجوازية و الحزبية فكرة اشتراكية كما اكدها لينين فإننا بدورنا نرى ان من شان التطور والدينامية الطبقية ببلادنا تحتمان بروز التعبير السياسي عن المصالح المستقلة للطبقة العاملة المغربية و الذي هو حزبها الذي لم يبنى بعد. و بذلك تصبح مهمة بنائه هي المهمة المركزية لجميع الماركسيين اللينينيين و هي حتما مهمة غير قابلة للتأجيل او المراوغة او الاختباء وراء كل مسوغات التي تقدمها النزعة اللاحزبية الصريحة او المقنعة ودعاة الاستقلالية و الفردانية. وكل ابتعاد عن الانجاز و تحقيق هذه المهمة يسقط عن صاحبه كل تبجح بالانتماء للمدرسة اللينينية كما نسمعه من سفسطة على شاكلة "ضرورة اكتمال الخط النظري و السياسي و العسكري".ليست لمثل هذا الخط من اهمية ولا من فائدة اذا لم ترتبط بالعمل التنظيمي وربط النظرية بالممارسة.خارج هذه الوحدة الجدلية للتنظيم وبناء الخط السياسي و الايديولوجي يقع المتقاعسون في النزعة اللاحزبية اي في خط البرجوازية، وإنكار الطابع الطبقي للحزب.فعلى جميع الماركسيين اللينينين المغاربة مباشرة مهمة بناء هذا الحزب و ذلك بالانخراط الجدي و المثابر عبر النقاش و التقارب و تبادل الخبرات والتجارب و صراع الافكار و انضاجها و البناء على القواسم المشتركة وتدليل العقبات و تجاوز الحزازات والصراعات الذاتية و النزعات الحلقية الضيقة الافق.
213
المقالة السابقة