معاد الجحري
انعقدت الندوة الثانية “للأفريقانية اليوم” أيام 29 يونيو و 1 و 2 يوليوز 2017 في تونس العاصمة تحت شعار “بناء أرضية اشتراكية لأفريقيا” (الندوة الأولى انعقدت بلوساكا سنة 2016). “الأفريقانية اليوم” إطار ذو هوية اشتراكية بالمعنى الماركسي ، يضم عددا هاما من القوى السياسية (أحزاب ومنظمات وتيارات) ومن القوى الاجتماعية المتحالفة معها (نقابات، جمعيات وحركات اجتماعية).
إن هذا الالتقاء بين قوى سياسية واجتماعية من الطراز المذكور يجد جذوره في السمات الأساسية التي تطبع هذه الفترة والمتميزة ب:
– اندحار أغلبية الأحزاب الشيوعية التي كانت مرتبطة بالاتحاد السوفياتي سابقا (الأحزاب الشيوعية التحريفية) وكذا الأحزاب الاجتماعية- الديمقراطية وحركة التحرر الوطني في البلدان التابعة.
– تآكل المنتديات الاجتماعية العالمية والجهوية التي طرحت نفسها منذ التسعينات كبديل للقوى السالفة الذكر، هي التي كانت ترفع شعار “عالم آخر ممكن”، حيث اخترقتها الإمبريالية العالمية وأفسدتها سلطة المال كما أفسدت الأغلبية الساحقة من المنظمات غير الحكومية (ONG).
– احتداد الصراعات الطبقية في مختلف بلدان المعمور نتيجة زحف النيوليبرالية وما نتج عنها من تنامي لمظاهر الإقصاء والهشاشة والفقر وتراجع الديمقراطية البرجوازية في بلدان المركز الرأسمالي نفسها.
النموذج الأسطع لهذا الالتقاء هو الجبهة الشعبية في البرازيل والتي تضم في المجموع أكثر من 60 تنظيما منها الحزب الشيوعي البرازيلي وحزب العمال البرازيلي وحركة الفلاحين بدون أرض (MST) وأبرز المركزيات النقابية وجمعيات وحركات اجتماعية متنوعة تسمى هناك بالحركات الشعبية (أساس هذه التسمية هو أن الأوساط البرجوازية هي أيضا بدأت تتحدث عن الحركات الاجتماعية ناهيك عن المجتمع المدني).
وفي إفريقيا يحاول الحزب الاشتراكي الزامبي بناء جبهة من هذا الطراز، كما هناك محاولات من طرف نقابات وحركات اجتماعية لبناء تعبيرات سياسية مقربة منها. هذا ما يحدث في جنوب إفريقيا حيث تعمل نقابة المعادن نومسا (NUMSA) على بناء جبهة موحدة بعد خروجها من المركزية النقابية الوحيدة في هذا البلد (CUSATU) المتحالفة مع الحزب الشيوعي والمؤتمر الوطني الإفريقي في السلطة وتأسيس مركزية نقابية جديدة. ولعل هذه التطورات تعبر عن فرز طبقي يجد أسبابه المباشرة في تضرر أجزاء من الطبقة العاملة في هذا البلد من السياسات المتبعة من طرف هذا التحالف الثلاثي والمؤطرة بالانتقال الديمقراطي لسنة 1995 وتبرز الحاجة إلى جيل جديد من الإصلاحات عجز التحالف المذكور عن القيام بها.
وفي الجزائر حيث سحقت جبهة التحرر الوطني (FLN) كل القوى اليسارية وتقبض على السلطة بيد من حديد، تعمل اللجنة الشعبية ضد استغلال الغاز الصخري في عين صالح جنوب البلاد على إيجاد تعبير سياسي مرتبط بهذه الحركة التي أصبح لها نفوذا لا بأس به بفضل تأطيرها للنضالات الاجتماعية للسكان ومنها حركة المعطلين وتدافع عن منظور ديمقراطي ولا مركزي للدولة. وهناك أمثلة أخرى في السنيغال (نقابة الصناعات الكيميائية) وفي زيمبابوي وفي الكونغو الديمقراطية حيث خرجت حركة اجتماعية جديدة تسمي نفسها بالخط الرابع الذي يموقع نفسه ضد الدولة والمعارضة التقليدية والمجتمع المدني الذي تم احتواؤه.
لا تكفي العوامل الموضوعية المشار إليها أعلاه إلى إقامة مثل هذه التحالفات السياسية- الاجتماعية بل يتطلب الأمر توفير شروط ذاتية تتعلق بكفاحية هذه التنظيمات وخاصة اقتناع قواعدها وقواعد الحركات الاجتماعية وهو ما يتطلب بدوره تسييس هذه القواعد بجعلها تدفع في اتجاه انخراط تنظيماتها الذاتية في النضال العام مع الحفاظ في نفس الوقت على استقلاليتها التي تعد مبدءا أساسيا بالنسبة لنا.
تسييس القاعدة يحمل في تجارب أمريكا اللاتينية التي تلهم “الأفريقانية اليوم” اسم التربية الشعبية (éducation populaire) وجوهر الفكرة أن تدافع التنظيمات الذاتية المستقلة للجماهير انطلاقها من مجالها الخاص عن الاشتراكية كتصور وكمشروع مجتمعي وان تعمل إلى جانب حلفائها الطبقيين من أجل التغيير الثوري والوصول للسلطة ومن هنا أهمية القيام بعمل إرادي بخصوص التكوين السياسي الموجه لطلائع النضال في هذه التنظيمات يهدف بشكل أساسي إلى تكوين الأطر وتحرير رؤية الحركات الجماهيرية (décoloniser la vision populaire) وتحويلها إلى رافد من روافد الثورة.
بدون هذا لا تضمن الأحزاب الثورية حتى التزام أعضائها وانضباطهم لتوجيهاتها فبالأحرى أن تضمن القوى الاجتماعية بجانبها. هذا ما يوضحه بجلاء مثال تونس حيث الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يوجد خارج الجبهة الشعبية رغم الحضور القوي لليسار داخله ويرفض تنسيقا تنظيميا ومسؤولا معها بدعوى الاستقلالية النقابية مع أنه قبل في مراحل معينة هيمنة الحزب الحاكم عليه. ولهذا تجده يترنح بين قطبي الصراع ليضمن لنفسه موقع الحكم والمنقذ حين تحتد الأزمة وهو بهذا يكرس الوضع القائم رغم كونه يعد أكبر قوة اجتماعية منظمة. ولعل الأسباب العميقة لما سبق تكمن في هيمنة “الفوضوية النقابية” التي تقدس العمل النقابي الصرف (الاقتصادوية) وتحتقر السياسي (هنا بالمعنى الثوري) وترفض أولويته على النقابي.
وفي المغرب كان النهج الديمقراطي قد أرسى وطور العمق النظري لهذه العلاقة بين التنظيمات الذاتية المستقلة للجماهير والحزب على مستوى مرجعيته منذ تأسيسه وبادر إلى الدعوة لتشكيل جبهة سياسية-اجتماعية ولكن محاولات حوالي سنة من العمل لبناء جنين مثل هذه الجبهة لم تثمر لأسباب عدة منها اشتراطات مكونات اليسار الديمقراطي وخلافات حول طبيعة المرحلة بين مكونات سياسية أخرى وخاصة تردد ثم رفض بعض التنظيمات الجماهيرية التقدمية في الظهور وسط تحالف جدري قد يجر عليها المزيد من هجوم النظام.
إن هذه التحالفات ضرورية لمجابهة الرأسمالية المتهالكة والأطماع الإمبريالية المتنامية على القارة الإفريقية حيث تاريخ الرأسمالية بها هو تاريخ التجارة في الرق والأبارتايد والاستعمار والحروب ولاستغلال الطبقي والاضطهاد الثقافي وضرب السيادة الغذائية لشعوبها وتجريب أشكال من الزراعة والإنتاج تم منعها في المراكز الرأسمالية المتقدمة بفضل النضالات الشعبية، وهي أطماع مرشحة للاستمرار بالنظر للخيرات التي تختزنها هذه القارة وتزايد عدد سكانها وتعاظم البطالة واليد العاملة الرخيصة بها. وهي أيضا تحالفات ممكنة كما توضح التجربة التاريخية ذلك، وما يبعث على التفاؤل هو الاهتمام المتزايد للشباب خاصة في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية بماركس وبالاشتراكية.