الرئيسية » كيف نفهم دعوة تنسيقية طلبة الطب إلى تشكيل جبهة طلابية ضد التطبيع؟

كيف نفهم دعوة تنسيقية طلبة الطب إلى تشكيل جبهة طلابية ضد التطبيع؟

هذه المبادرة تفتح أفقًا حقيقيًا أمام تجديد الفعل الطلابي وربطه بالقضايا الوطنية الكبرى

كتبه user B

أيوب حبراوي

في سياق التراجع الكبير الذي تعرفه الحركة الطلابية المغربية، وتشتت الفعل النقابي داخل الجامعة، وعدم قدرة القوى التقدمية على استعادة المبادرة، ظهرت تجربة التنسيقية الوطنية لطلبة الطب (حاليا: اللجنة الوطنية لطلبة الطب وطب الأسنان والصيدلة) كمبادرة غير مسبوقة، قادمة من داخل القواعد الطلابية نفسها، لا من صلب الفصائل أو التنظيمات الطلابية . هذه التجربة، التي انطلقت من حاجة موضوعية لتمثيل حقيقي وفعال لطلبة الطب والصيدلة وطب الأسنان، استطاعت أن تراكم خلال سنوات قليلة تجربة نضالية نوعية، عنوانها الاستقلالية، الفعالية، ووضوح الرؤية.

وإذا نظرنا إلى الواقع التنظيمي في الجامعات المغربية، يتبين أن الاتحاد الوطني لطلبة المغرب (أوطم)، بالرغم من تاريخه العريق كممثل شرعي ووحيد للطلبة، لم يعد موجوداً كهيكل موحد فعّال. أوطم، في عدد كبير من الكليات، لا يظهر إلا كشعار في المعارك الطلابية التي تقودها الفصائل التقدمية أو الإسلامية، لكنه غائب كمؤسسة نقابية مهيكلة ذات تمثيلية موحدة، وهو ما جعل تجربة التنسيقية تبرز كحاجة، وكأداة فعل مباشرة ومنظمة.

النجاح التنظيمي والنضالي للتنسيقية لم يكن نتيجة فراغ تنظيمي فقط، بل هو ثمرة تراكم وعي نقابي داخل فئة طلابية طالما نظر إليها كـ”نخبوية” أو بعيدة عن الفعل السياسي. لقد نجحت التنسيقية في توحيد طلبة الطب في مختلف المدن المغربية، واستطاعت أن تفرض نفسها كمخاطب شرعي للوزارة والمؤسسات الرسمية، كما أحرجت القوى السياسية والنقابية التي ظلت لعقود تحتكر الفعل الطلابي دون أن تنتج فعلاً ملموساً.

لكن الأهم في هذه التجربة هو أنها لم تنكفئ على مطالبها الفئوية، بل تجاوزتها إلى الموقف الوطني والسياسي. ففي عز الهجمة التطبيعية، أصدرت التنسيقية موقفاً واضحاً داعماً للقضية الفلسطينية، ودعت إلى تشكيل جبهة طلابية موحدة ضد التطبيع، بل وشاركت ميدانياً في وقفات وبيانات ضد الاحتلال الصهيوني. هذا الموقف  يعكس وعياً سياسيا كبيرا، و يُظهر أن التنسيقية، برغم استقلاليتها، منخرطة في القضايا الكبرى للمجتمع المغربي. ورغم ذلك، واجهت التنسيقية نوعاً من التهميش أو حتى العداء من طرف بعض الفصائل، خاصة التقدمية منها، التي رأت فيها تجربة فئوية أو بديلة أو حتى مهيمن عليها من قبل الإسلاميين. هذا الموقف، في العمق، لا يعكس سوى أزمة رؤية لدى هذه الفصائل التي لم تعد قادرة على التفاعل مع تجارب جديدة خارجة عن إطارها التنظيمي الضيق. فالحديث عن هيمنة الإسلاميين على التنسيقية لا يصمد أمام تحليل تركيبتها الداخلية ولا أمام مواقفها، بل يُستخدم أحياناً كذريعة للانسحاب من معارك وحدوية حقيقية.

العنف الجامعي والتشتت  بدوره لعب دوراً سلبياً في إبعاد العديد من الطلبة عن العمل النقابي، وكرّس نوعاً من الانفصال بين الكتلة الطلابية الواسعة وبين الفصائل المنظمة. بالنسبة لطلبة الطب، فإن الحذر من العنف والصراعات العقيمة داخل الجامعة ساهم في ميلهم إلى تأسيس إطار مستقل وسلمي، يركز على التفاوض والضغط المؤطر، ويبتعد عن منطق “الحسم الفصائلي” أو “الشرعية بالعنف”. وهذا الخيار منحهم مصداقية أكبر لدى عموم الطلبة، بل وحتى لدى الرأي العام.

من هنا، يمكن القول إن تجربة التنسيقية تشكل درسًا سياسيًا ونقابيًا بليغًا، ليس فقط لما تبقى من الحركة الطلابية، بل أيضًا لكل القوى السياسية التقدمية التي فشلت في إعادة بناء أدوات فعلها داخل الجامعة. لقد أثبتت هذه التجربة قدرة الجماهير على التنظيم الذاتي في غياب الفعل المهيكل، وبيّنت أن النجاح لا يرتبط فقط بالمرجعية الأيديولوجية، بل أساسًا بالقدرة على الاستماع للواقع والتحرك ضمن تناقضاته. وفي ضوء هذه الحقيقة، يتضح أن أحد المداخل الأساسية لتجاوز الوضع الطلابي الراهن هو عقد المؤتمر الاستثنائي للاتحاد الوطني لطلبة المغرب (أوطم)، كخطوة أولى لإعادة الاعتبار لهذا الإطار التاريخي. إلا أن نجاح هذا المسار لا يتحقق إلا بفتح الباب أمام الطاقات التنظيمية الجديدة، وعلى رأسها التنسيقية الوطنية لطلبة الطب التي تمثل مكونًا فاعلًا ومجربًا. إدماج هذه التجربة ضمن مشروع إعادة بناء أوطم ليس مجرد تكريم لمسارها، بل هو شرط أساسي لإعادة المصداقية للنقابة الطلابية الوحيدة التي تمثل الطلبة.

في هذا السياق، من الواجب توجيه نقد صريح للفصائل التي تهربت من دعم التنسيقية، تحت ذريعة فئويتها أو تحت حجة أن الإسلاميين متحكمون فيها. مثل هذه الحجج لا تصمد أمام منطق العمل الوحدوي، كما أنها تكشف نوعاً من العجز عن المبادرة والانخراط في الفعل الحقيقي. كان من الأجدر بهذه الفصائل أن تنخرط في دعم وتطوير تجربة التنسيقية، بدل تركها وحيدة في معاركها، بل وفي بعض الأحيان مهاجمتها من الخلف.

إننا اليوم أمام لحظة تستدعي من كل الفاعلين داخل الجامعة التفكير بجرأة. لم يعد ممكناً إعادة إنتاج نفس الأساليب القديمة، ولا الاستمرار في نفس الخطابات المهترئة عن الوحدة النقابية دون فعل يوحد. تجربة التنسيقية تقول لنا إن الوحدة تُبنى من القاعدة، على أساس برنامج نضالي واضح، ووسائل تنظيم فعالة، لا على أساس التحالفات الظرفية والشعارات العمومية.

إن الحركة الطلابية المغربية تحتاج اليوم إلى مشروع متجدد، ديمقراطي، جماهيري، قادر على استيعاب التعدد، وعلى مواجهة العنف السياسي داخل الجامعة، وعلى إعادة بناء الثقة بين الطلبة وممثليهم. مشروع يكون فيه موقع التنسيقية أحد مراكز الجذب، لا طرفاً مهمشاً. لذلك، فإن التفكير في المستقبل لا يمكن أن يتم دون اعتبار هذه التجربة، لا بوصفها استثناء، بل كنموذج قابل للتكرار، شرط أن تتوفر الجرأة السياسية، والصدق النضالي، والرغبة في القطع مع منطق الهيمنة والتنافس العقيم. هكذا فقط يمكن للحركة الطلابية أن تستعيد عافيتها، وأن تعود لتكون مدرسة للنضال، ومختبراً للأفكار، ورافعة للتغيير الحقيقي داخل الجامعة وفي المجتمع.

في الأخير، تمثل دعوة التنسيقية الوطنية لطلبة الطب إلى تشكيل جبهة طلابية موحدة لمناهضة التطبيع خطوة بالغة الأهمية، ليس فقط لمضمونها السياسي، بل لكونها صادرة عن إطار جماهيري مستقل نابع من القواعد، لا من الفصائل. وهو ما يفرض على مختلف التنظيمات الطلابية، خاصة التقدمية منها، أن تناقش هذا المقترح بجدية، وأن تنخرط فيه بروح وحدوية ومسؤولة. فهذه المبادرة تفتح أفقًا حقيقيًا أمام تجديد الفعل الطلابي وربطه بالقضايا الوطنية الكبرى، ما يقتضي فتح نقاش واسع داخل الجامعة حول آليات بناء هذه الجبهة، وتوسيع المشاركة فيها، بما يضمن انخراطًا وازنًا يعيد للطلاب دورهم كفاعل جماهيري في التصدي لمشاريع التطبيع والتبعية.

قد تعجبك أيضاً

اترك تعليقًا