في ذكرى إغتيال الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي من طرف الموساد الصهيوني، ناجي الذي وضع بصمته عبر شخصية حنظلة في الأدب العالمي بكونه أحد الأدباء الذين حاولوا صناعة وإضافة شخصيات جديدة تمثل ليس فقط علامات فنية معبرة عن الإنسان والمجتمع في سياق التحول الذي يعرفه العالم في مرحلة من المراحل، بل وما يرتبط بذلك من سلوكات نفسية وإجتماعية و (وسياسية أيضا في بعض الأعمال كالذي نحن بصدده)، بالإضافة إلى هذه أو تلك من الظواهر المتعلقة بها.
نعم الكل يعرف الكثير من الشخصيات في الأدب العالمي مثل شخصية هاملت أو روميو أو تاجر البندقية لشكسبير، أو كارمن لبيزيه أو دون كي شوت لسرفانتس أو فاوست للأديب الألماني الكبير غوته، كلها شخصيات أدبية عظيمة تم إنتاجها كتعبير إلى هذا الحد أو ذاك عن نهاية مرحلة تاريخية أو بداية أخرى وبالضبط نتحدث هنا عن إنهيار النظام الأوتوقراطي الأوروبي وحلول المجتمع الأحدث منه ونعني به الرأسمالي، كلها روايات كتبت في أواسط القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، زمن الثورات البرجوازية في أوروبا.
فمثلا شخصية كارمن ضمن مسرحية اوبرا كارمن لجورج بيزيه سنة 1846 والتي عبرت عن الإضطهاد الذي يطال الشعب الفرنسي وخاصة المرأة الفرنسية وعن تمرد النساء الغجريات الفرنسيات أو لنقل كل النساء التي كانت تنتمي آنذاك لما كان يسمي ب”الطبقة الثالثة” أو “طبقة عامة الشعب” والتي تعبر كذلك عن نضال المرأة الفرنسية ومساهمتها الفعالة سواءا في الثورة البرجوازية سنة 1789 او في انتفاضة يوليو 1830 او في كمونة باريس سنة 1871 لتصبح تلك الشخصية تمثل تحريضا لنفس تلك المرأة التي لم تتحرر بعد ثورة القرن الثامن عشر رغم كل الشعارات التي كانت تدعي تحررها من قبضة الرجل والنظام الفيودالي، لتجد نفسها رهينة نظام جديد ورجل جديد، مما جعل دمها خلال الحرب الاهلية يغمر شوارع باريس بعد قمع الكمونة. لتكون بذلك المسرحية تمثل زبدة (la créme) لكل هاته الاحداث والمراحل التاريخية التي شهدها المجتمع الفرنسي.
ولا ننسى ان نشير انه الى جانب تلك الشخصيات التي أتت بعد هذه الثورات، فهناك ما أتت قبلها محاولة ومساهمة في القيام بالثورة، ونذكر هنا شخصية المتفائل (Candide ou l’optimiste) لفولتير والتي كانت تمثل انتقاد لممثلي النظرة الفلسلفية القائمة على وردية الحياة وتعبيرا عن المصالح الطبقية السائدة إبان تلك الفترة.
في هذا السياق تأتي قصة ديدرو حول الإنسان التاهيتي والمعنونة ب”رحلة بوغنفيل” Supplément au voyage de -Bougainville- -والتي كانت تمثل أولى إرهاصات الفكر الاشتراكي الطوبوي عبر ارتباطها آنذاك بالاكتشافات الجغرافية التي حاولت ان تلقي نظرة انتوروبوجية عبر شخصية ” بوغنفيل “. على الإنسان الموجود في بقاع اخرى من العالم والذي اعتبرته عودة إلى الحياة البدائية الخالية من سلوكات الخداع والانتهازية، كبرهان منها على نظرية الحق الطبيعي عموما التي كانت تدافع عنه البرجوازية حينذاك والذي يشكل إحدى دعائم العقد الاجتماعي لروسو.
وهناك ايضا شخصيات عديدة خلال هذه الثورة بصمت في مخيلة كل مثقف يقف مع الحياة ضد الموت ومع النور ضد الظلام كيف لا وذلك العصر سمي ولازال يسمى طوال تاريخ البشرية بعصر الأنوار، وقد استحق فعلا ذلك اللقب عن جدارة واستحقاق. عصر سحق القنانة وضرب بيد من حديد إستغلال الدين في السياسة.. وغيرها من الاصلاحات التي جرت مع بناء هذا النظام الاجتماعي الجديد في تلك الفترة والتي كانت ضرورية للسماح بمرونة إمكانية هذا البناء.
نذكر آخر شخصية في تلك الفترة وليس بآخرها، شخصية تشبه كثيرا الشخصية التي نحن بصدد الحديث عنها، شخصية الطفل الذي ينتمي الى طبقة ستتعفن فيما بعد، كانت تمثل فينذاك عصر طفولتها هي كذلك. إنها شخصية الطفل غافروش ” من رواية البؤساء لفيكتور هيجو فرغم المؤلفات المملة و الرجعية فيما بعد لهذا الكاتب إلا ان تلك الشخصية ظلت تمثل مصباح أمل ومشعل حياة لساكني هذه الأرض المحروقة، إنه يعبر عن أنامل الأطفال الذين شاركوا في الثورة، حاربوا جيوش الملك والنبلاء، إنتصروا .. حققوا النصر لحلفائهم البرجوازيون، ويمثلون من استعبدهم البرجوازيون بعد ذلك، من أخدت البرجوازية من اناملهم الاسلحة ووضعتها في آلاتها في المعامل. هنا تنتهي القصة لتبدأ قصة أخرى.
مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين سيعرف الأدب العالمي ميلاد شخصية جديدة رافعت مرحلة جديدة في تاريخ النظام الرأسمالي ونعني أعلى مراحله مرحلة الإمبريالية، تشكلت هذه الشخصية على يد الأديب الروسي العظيم ماكسيم غوركي عبر شخصية الأم والتي كانت تعبر عن إنهيار النظام الذي أصبح قديما بعد أن كان جديد (ونعني هنا نمط الانتاج الرأسمالي) وضرورة حلول مشروع إجتماعي جديد مكانه يتم بناءه لتقديم أمل لأجيال ذاقت مرارة وعذاب وشقاء وبؤس الأوضاع الراهنة. إن الأم كانت تعبر عن ذلك الجيل الذي عانى الأمرين ليأتي له الإبن المنقذ ويضع كفه في كفه لبلوغ المستقبل وتحطيم قيود الحاضر ودفن انقاض المستقبل البائس. في هذا العمل تجلت اكثر ما يمكن من الاعمال والشخصيات واقعية في تاريخ الادب الذي انتجته البشرية منذ ميلادها.
في هذا المنوال حاول ناجي السير طامحا في نقد وتفسير الأزمة التي تعاني منها شعوب المنطقة وبالضبط الشعب الفلسطيني القابع بين مطرقة العدو الظاهر “الصهيونية والإمبريالية” وسنديان العدو الخفي “الانظمة الرجعية”، عمل ناجي على إبداع تلك الشخصية وبناء مواقفها طامحا في ان تكون ايقونة يقتدي بها المثقفون في مجمعاتنا، وبوصلة لحركات تحررنا الوطني في زمن يمكن للكاريكاتير ان يكون تعبيرا افضل عن الفكر الذي اصبح محاصرا جراء القمع الذي يتعرض له.
إن ذكرى ناجي اليوم هي دعوة لإحياء الأنوار الحمراء علما بأن لا تقدم في الأفكار بدون ثقافة بدون فن بدون أدب بديل، علما بأنه لا يمكن للمناضل أن يزاول عمله بدون أن يغني ذاكرته ووجدانه بكل ما حملته البشرية طوال تاريخها او على الأقل ما هو ضروري أن يعرفه وهو ما انتجته من أدب وفن وثقافة في القرنين الأخيرين قرن الثورات البرجوازية وبناء المجتمع الراسمالي وقرن الامبريالية وعصر الثورات الاشتراكية.