غازي الصوراني
سأبدأ حديثي بتناول سريع لجوهر متغيرات عصر العولمة وأثره على الثقافة، إذ ليس من السهل على أي باحث أو مثقف أو مفكر في هذا العصر أن يضع مفهوماً محدداً للثقافة، فهو عصر تتهاوى فيه كثير من النظم والأفكار والقواعد المعرفية لحساب رباعية" البيانات والمعلومات والمعارف والحكمة" التي باتت محدداً رئيساً لعصرنا، بسبب هذا التطور المتسارع للعلوم وتكنولوجيا المعلومات وعلوم الفضاء والهندسة الوراثية وهندسة النانو والميكروبيولوجي ، إلى جانب تطور العلوم الحديثة في اللغة، والاجتماع، والانثربولوجيا ، والتاريخ والجغرافيا البشرية والاقتصاد، خلال العقود الثلاثة الأخيرة، التي اختزلت الزمان والمكان، فأصبحت المعلومات والمال ورؤوس المال تنتقل في زمن حقيقي، مخترقة الحدود والسماوات،ما يستدعي من المثقف العربي، التأمل والتفكير ومتابعة المستجدات النوعية التي ستدفع إلى بلورة مفهوم جديد للمعرفة، صاعداً وثوريا وديمقراطيا بلا حدود أو ضوابط، بعد أن أصبحت صناعة الثقافة والمعلومات من أهم صناعات هذا العصر بلا منازع .
فقد باتت السيطرة الرأسمالية المعولمة على العالم تهدد كل مناطق الأطراف عموماً وبلداننا العربية خصوصاً التي تعيش اليوم حالة من الانتفاضات العفوية والمتغيرات التي تحمل في طياتها الكثير من بذور القلق وتشاؤم العقل بسبب هذا الضعف المريع للمثقف العضوي الديمقراطي الثوري عموما واليساري على وجه التخصيص من جهة وبسبب قوة تأثير القوى اليمينية بمختلف اطيافها السياسية والدينية من جهة ثانية، بحيث يمكن ان يحمل المشهد الانتفاضي العفوي الراهن – في احشاءه – جنينا لثقافة خليط لمفاهيم الاسلام السياسي والليبرالية الرثة، تسعى إلى اعادة تشكيل ثقافة التخلف وتبرير الخضوع والتبعية و علاقات الاستغلال تحت مظلة هشة من الديمقراطية الشكلية التي ستتيح –في حال نضوجها- إلى تحول المشهد الراهن ليصبح –خلال سنوات قليلة قادمة – خاضعاً لحركات الإسلام السياسي ومشروعها القائم على ثلاثة أعمدة هي:
أولاً: الاستخدام الامثل للديمقراطية الشكلية بوسائل وخطابات ديماغوجية وغيبية بما قد يمهد لتجاوزها والغائها ، ثانياً: إحلال خطاب إيديولوجي شمولي محلي (ينتهي إلى) خضوع شكلي لطقوس دينية لا غير( سمير امين ). ثالثاً: قبول الانفتاح الكومبرادوري الشامل على الصعيد الاقتصادي ، اذ ليس هناك أي تناقض بين الاسلام السياسي والنظام الراسمالي العالمي.
وهنا أدعو إلى إعمال الفكر أو العقل للوصول إلى المفهوم الواضح للثقافة ارتباطاً بالمشهد القادم او المحتمل، وارتباطا بخصوصية الواقع وبالتفاعل معه ، وهنا يمكن القول أن الثقافة هي جملة ما يبدعه الإنسان والمجتمع على صعيد العلم والفن ومجالات الحياة الأخرى، المادية والروحية، من اجل استخدامها للإجابة على الأسئلة الكبرى للإسهام في حل مشكلات التقدم والتطور .
حول مفهوم المثقف :
نتفق على ان هذا المفهوم ليس مفهوماً مجرداً،وليس عنواناً او فرضية، بل هو ملخص منظومة فكرية مكتملة تحققت تاريخياً عبر الممارسة في مجتمع معين في مراحل تطوره المختلفة، وأدت او أسهمت في تغيير العديد من الأنماط والأنظمة السياسية عبر دور فعال على مدار التاريخ البشري ، خاصة في عصر النهضة الاوروبية حيث لاحظنا الدور الاول والرئيسي للفلاسفة والمفكرين في نشر مبادئ العقلانية والتنوير والحداثة والثورة … الخ وهذا ما يتوجب أن يمارسه –وبوعي- المثقف العربي الملتزم بقضايا العقلانية والتقدم والعدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية في بلادنا. أما بالنسبة لاجتهادي المنحاز لشمولية مفهوم المثقف، فإن الشمولية التي أقصدها هنا لا تتناقض مع التعريفات التي عبّر عنها مجموعة من المفكرين في تعريفهم للمثقف بأنه " هو الإنسان الذي يضع نظرة شاملة لتغيير المجتمع" أو هو المفكر المتميز المسلح بالبصيرة كما يقول ماكس فيبر، أو هو الذي يمتلك القدرة على النقد الاجتماعي والعلمي والسياسي أو هو المفكر المتخصص المنتج للمعرفة، وهي تعريفات عامة لا تحرص على تحديد الزاوية أو الموقع الذي ينطلق منه ذلك المثقف في ممارسة النقد الاجتماعي أو السياسي أو في صياغته للنظرة الشاملة للتغيير… والزاوية التي اقصدها هي الموقع الطبقي بالتحديد (عبر الالتزام التنظيمي بالحزب الماركسي) ، فهو الغاية والقاعدة المنتجة والمحددة لكل رؤية فكرية ثقافية أو لكل ممارسة نقدية
وفي ضوء ذلك تتجلى أهمية استخدام مفاهيم الحداثة و التنوير والعقلانية والثورة الديمقراطية، في مجابهة أنظمة التبعية والتخلف والاستبداد وشرائحها البيروقراطية الكومبرادورية الحاكمة ، وفي مجابهة الجوانب السلبية لتراثنا، إذ لا يتولد مفهوم العقل من ماضوية أو جمود التراث بل من القطيعة المنهجية والمعرفية معه، وذلك شرط للعقل كعقلانية، فالعقل هنا، حسب هذا المفهوم، هو العقلانية التي تمثل مؤشر ورمز المجتمع الحديث وليس غير ذلك.
بمعنى آخر، لا يكون العقل عقلانية، ولا يُجسَّد في السلوك، إلا إذا انطلقنا من الفعل وخضعنا لمنطقه، من خلال عملية التجريد والتوضيح والتعقيل، لكي نتمكن من استبدال المنطق الموروث أو سلبياته المعرفية تحديداً التي تتمظهروتتجلى منذ القرن الرابع عشر حيث تعيش المجتمعات العربية حالة من المراوحة الفكرية على تراث الغزالي وابن تيمية وابن القيم الجوزية او ما اسميه التواصل المعرفي مع هذه المحطات السالبة في التراث القديم (خاصة بعد إزاحة ابن رشد وابن خلدون والفارابي والكندي والمعتزلة فرسان العقل في الإسلام) من جهة ومع الأنماط الاقتصادية والاجتماعية القديمة من جهة ثانية، وهو تواصل حرصت عليه الطبقات الحاكمة في بلادنا بمختلف أشكالها وأنماطها التاريخية والحديثة والمعاصرة حتى يومنا هذا، وهو حرص استهدف دوماً إبقاء الوعي العفوي للأغلبية الساحقة من الناس في حالة من الجهل والتخلف بما يضمن استمرار مصالح الطبقات الحاكمة، -كما هو الحال في مساحة كبيرة من الانتفاضات العربية راهنا – وهنا تتبدى أهمية تفعيل واستنهاض دور المثقف في بلادنا لمجابهة وتغيير هذا الواقع، وهي عملية مشروطة باستيعاب مفهوم المثقف ودوره في هذه المرحلة الصعبة والمعقدة ، فالمثقف هو الحامل لرسالة، لموقف، لرؤية نظرية مستقبلية من ناحية وهو أيضاً المثقف العضوي، الذي يعمل على إنجاح المشروع السياسي والمجتمعي الخاص بالكتلة التاريخية المٌشَكّلة من العمال والفلاحين الفقراء ، وهو "الداعية" "الاختصاصي" "المٌحَرِّض" "صاحب الايدولوجيا" أو حاملها، المدافع عن قضايا الحقوق والحريات، الملتزم بالدفاع عن قضية سياسية، او قيم ثقافية ومجتمعية أو كونية، بأفكاره أو بكتاباته ومواقفه تجاه الرأي العام، هذه صفته ومنهجيته، بل هذه مشروعيته ومسئوليته تجاه عملية التغيير التي يدعو إليها.
لذلك أرى ضرورة الجمع بين المثقف حامل الرسالة، وبين المثقف العضوي الملتزم تنظيمياً، بحكم تقاطع أو توحد الرؤيتين في نقطة التقاء هامة، وهي الوظيفة النقدية للمثقف، والوظيفة النقدية هنا تتخطى التبشير أو الرسالة إلى التغيير وتجاوز الواقع… المهم الزاوية الطبقية التي ينطلق منها المثقف،وبهذا المعنى لابد من أن أشير إلى انحسار دور هذا المثقف العضوي الماركسي في بلادنا بصورة مريعة ومقلقة، في هذه المرحلة التي تغيرت فيها مراتب القيم بحيث باتت القيم السياسية الهابطة والقيم الانتهازية المصلحية وقيم النفاق والاستسلام والقيم الفردية الانانية والقيم الاستهلاكية التي أصبح لها منظروها ومشرّعوها الذين صنعتهم انساق وآلات سلطوية" قديمة أو جديدة أو مستحدثة كما هو الحال في وضعنا العربي الراهن ( انظروا الى دور" شيوخ" القبائل الاقزام في قطر والخليج والسعودية وغيرهم من العملاء المنتشرين في انظمة الحكم العربية ( .
وهنا أود التأكيد – بلا كلل او يأس – على أهمية انحياز المثقف الماركسي لمصالح وأهداف الطبقات الشعبية الفقيرة، فاما الاشتراكية او البربرية ، إذ أن هذا الانحياز الواعي للاشتراكية ، هو الأساس الأول في تحديد جوهر دور المثقف و ماهية موقفه السياسي، ورؤيته الفكرية أو الأيدلوجية وفق ما يتطابق مع تطلعات الطبقات الشعبية وأهدافها المستقبلية ، الأمر الذي يفرض –كضرورة تاريخية راهنة ومستقبلية – أن تبادر قوى وأحزاب اليسار لإعادة بناء أحزابها او بناء احزاب ماركسية ثورية جديدة ، كمدخل وحيد لاستعادة دورها وقيادتها لحركة التحرر الوطني و القومي الديمقراطي من أجل تجاوز وتغيير هذا الواقع المهزوم صوب مستقبل النهوض القومي والتحرر والوحدة والعدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية .