الصفحة الرئيسية الأنشطةذكرى الشهداء عبد اللطيف زروال: “أموت فداك يا وطني”

عبد اللطيف زروال: “أموت فداك يا وطني”

كتبه chabiba

بقلم عبد اللطيف زروال

      كتبت هذا المقال في نهاية 2015 بطلب من الفقيد عبد اللطيف حسني في إطار ملف حول الاغتيال السياسي في المغرب كانت ستنشره مجلة “وجهة نظر” التي كان يديرها. للأسف، كان المرض اللعين قد تمكن منه و لم يمهله حتى يخرج ذاك الملف إلى النور. ارتأيت نشر هذا المقال، بمناسبة حلول الذكرى 43 لاستشهاد المناضل عبد اللطيف زروال، كما هو دون تعديل. و هو في الحقيقة ثمرة مجهود جماعي في إطار “لجنة كل الحقيقة حول مصير عبد اللطيف زروال” حيث كنا قد قررنا جمع شهادات حول الشهيد بغية نشرها في كتاب. لا زال المشروع قائما و سيخرج إلى النور في القريب العاجل. أود هنا التنويه بالدور الأساسي الذي لعبه و ما زال يلعبه الرفيق عبد الرحيم الخادلي في مشروع حفظ الذاكرة الذي بدأناه في إطار”لجنة كل الحقيقة حول مصير عبد اللطيف زروال”. كما أهدي هذا المقال لروح الفقيد عبد اللطيف حسني الذي لولا إلحاحه لما كان سيخرج للوجود.

           عبد اللطيف زروال عضو “لجنة كل الحقيقة حول مصير عبد اللطيف زروال”

***********************

المرجو النقر هنا لتحميل الملف بصيغة PDF

    يوم 15 نونبر 1974، كان المعتقل السياسي عبد الرحمان نودا يرقد فوق سرير بالطابق الخامس بمستشفي ابن سينا بالرباط[1] حين أخبره أحد عناصر قوات التدخل السريع المكلفة بحراسته بأن أحد المعتقلين قد توفي بالأمس فوق نفس هذا السرير. مضيفا بأن هذا المعتقل كان “في وضعية متدهورة وحاول الحراس الدردشة معه من أجل تمضية الوقت، لكنه استسلم للنوم، وبعد أن حاولوا إيقاظه وجدوه ميتا”[2]. تقول بعض الروايات بأن آخر ما تفوه به هذا الأخير قبل وفاته هو عبارة “أموت فداك يا وطني”. لا يعلم أحد مدى صحة هذه الرواية. لكنها تؤكد بأن الأمر يتعلق بشخصية غير عادية. لم يكن هذا المعتقل الذي كان يبلغ من العمر 23 سنة وستة أشهر يوم وفاته أي يوم 14 نونبر 1974 سوى أحد أبرز قادة منظمة “إلى الإمام”: عبد اللطيف زروال.

من الاختطاف إلى الاستشهاد 

يوم 5 نونبر 1974، كان عبد اللطيف زروال عضو الكتابة الوطنية لمنظمة إلى الأمام على موعد مع أحد القياديين بمنظمة 23 مارس. كان رفيقه أبراهام سرفاتي قد اتفق معه قبل الموعد بنصف ساعة على العودة إليه في ساعة لاحقة وكان مكان اللقاء هو ملتقى شارعي الزيراوي والزرقطوني بالبيضاء. انتظره أبراهام لكنه لم يأت وهو المضبوط المواعيد. كان عبد اللطيف قد سقط في كمين نصبته له الشرطة السرية. فهو لم يكن يعلم بأن الشخص الذي سيلتقيه قد اعتقل واعترف بمكان وزمان الموعد. اقتيد زروال إلى المعتقل السري بدرب مولاي الشريف بالبيضاء. تعرض فيه لتعذيب همجي متواصل لمدة أسبوع. رفض عبد اللطيف الإدلاء بأي معلومات. كان الصمت سلاحه في مواجهة الجلاد قدور اليوسفي ومساعديه من أعضاء الفرقة الوطنية للشرطة القضائية. يروي “مصطفى خلال” أحد رفاقه في المنظمة: “أخذوني  إلى  كوميسارية  المعاريف  بالدار  البيضاء. وفتحوا  باب  إحدى  الزنازن  كي  أرى  عبد  اللطيف . مع  انفتاح  الزنزانة  رفع  عبد  اللطيف  رأسه  فزعا  فزع  أي  شخص  يفتح  عليه  باب مكان  ما  فجأة. بقي  البوليسي  واقفا  ينظر  إليه  دون  أن  يوجه  إليه  أية  كلمة. ربما كان يريد أن يمنح لي و لعبد اللطيف  بعض  الثواني  كي نركز  نظرنا  جيدا   في  بعضنا  البعض. رأيت  عبد  اللطيف  ممددا  على  الإسفلت العاري وبدون  أغطية  ولا  فراش. كان  ممددا  على  جنبه  الأيمن. رفع  رأسه  وقد  حاول  الاتكاء  على  كتفه  وهو  ينظر إلينا في  حين  كان  الوضع  الطبيعي  هو  أن  يتكىء  على  كوعه  كي  ينظر  إلينا  فيما  إذا  أراد أن  يبقى  ممددا  أو  أن  يتخذ  وضع  الجلوس  . كان  واضحا  أنه  كان  عاجزا  عن  أن  يتخذ  أي  وضع  من  هذين  الوضعين  الطبيعيين  نظرا  لما  تعرض  له  من  تعذيب مفرط.  بعد  انصرام  بعض  الوقت  كما  أسلفت،  وجه  إليه  الجلاد  السؤال  فيما  إذا  كان  يعرفني. حرك  عبد  اللطيف  رأسه  نافيا  معرفته  بي.  ثم  سألني  الجلاد  نفس  السؤال  وأنكرت. ثم  أغلقوا  الباب. […] كان  سكان  “الدرب”[3]  جميعا  على  علم  بالمستوى  الرهيب  للتعذيب  الذي  مورس  على  عبد  اللطيف  زروال .  كانوا  كلهم  يثيرون  صموده  البطولي  ورفضه  المطلق  عن  الإجابة  عن  أي سؤال  يطرح  عليه . ولم  أعد  أذكر  من  من  هؤلاء  قال  لي  أنه  رأى  زروال  يُحمل  في  غطاء  من  طرف  أربعة حراس  لحمله إلى حيث  يريده  الجلادون.”[4]  ولإجباره على الكلام، اختطفوا والده الذي اقتيد إلى نفس ذاك المعتقل السري حيث تم تهديده بالقتل والتعذيب أمام ابنه. لكن هذا الأخير أصر على الصمت ولم ينبس ببنت شفة. تدهورت حالته الصحية جراء التعذيب الوحشي فتم نقله إلى مستشفى ابن سينا يوم 12 نونبر 1974 تحت اسم مزور هو عبد اللطيف البارودي لتنتهي حياته القصيرة بعد يومين من دخوله المستشفى.

من برشيد إلى الرباط 

ولد عبد اللطيف زروال ببرشيد يوم 15 ماي 1951. تربى في كنف عائلة وطنية. فقد كان والده، الذي درس بجامعة ابن يوسف بمراكش، مسؤولا بحزب الاستقلال في منطقة أولاد الحريز. وكان قد اعتقل مع عدد من أفراد أسرته إثر أحداث فرحات حشاد سنة 1952 وأبعد بعدها للدار البيضاء بقرار من السلطات الاستعمارية. أمضى عبد اللطيف جزءا من طفولته بالمدينة القديمة بالبيضاء معقل المقاومة المسلحة التي كان والده على ارتباط بها. تابع دراسته الابتدائية ببرشيد والإعدادية بالدار البيضاء ثم الثانوية بمدارس محمد الخامس بالرباط. عرف عبد اللطيف باطلاعه الواسع و ولعه بالأدب. يقول كمال عبد اللطيف، أحد زملائه و أصدقائه في مرحلة الدراسة الثانوية و الجامعية: “كنا مولوعين بتحويل بعض الفقرات من الروايات التي كنا نقرأها إلى نصوص للحفظ ، لا أدري من أين جاءتنا الفكرة، ولكنني أذكر أننا كنا نستظهر بعض المقاطع من روايات اللص والكلاب، والشحاذ، وثرثرة فوق النيل..إلخ. كما كنا نقوم بقراءتها بصوت مسموع، وأحيانا نحفظ مقاطع منها تمتلك في تصورنا  إيحاءات قوية، وتستوعب نمطاً استثنائياً في الكتابة والبحث والتأمل. كان عبد اللطيف زروال مولعا بهذه المقاطع الساحرة، وكنا نقضي معا وقتا طويلا في حفظ قصائد من دواوين صلاح عبد الصبور: “أقول لكم “” أحلام الفارس القديم” وعبد الوهاب البياتي، إضافة إلى بعض دواوين نزار قباني.”[5] و قد نتج عن هذا الولع بالأدب عند عبد اللطيف إنتاج شعري غزير لم تنشر منه سوى قصيدة واحدة تحت عنوان “عن الحب و الموت” بالعدد الأول من السلسلة الجديدة من مجلة “أقلام” الصادر سنة 1972. يحكي لنا كمال عبد اللطيف عن قصتها: كان عبد اللطيف قد لفت انتباه بعض أساتذته، فقد اكتشف  الأستاذ محمد إبراهيم بوعلو شاعريته وشغفه الكبير بالقراءة. وكان زروال سنة 1970 قد كتب قصيدة رائعة تضمنت كثيرا من العناصر التي كان يمكن أن تصنع منه شاعرا بمقاس كبير، لو لم يحصل ما حصل. […] فأخذ منه القصيدة ثم نشرها في أحد أعداد مجلة أقلام […] لكنها كانت القصيدة الوحيدة المنشورة له بتشجيع من الأستاذ إبراهيم بوعلو، وهي قصيدة تكشف بعض ملامح شاعريته، وتذكرني بقراءاته لكثير من دواوين الشعر في المدرسة الثانوية والجامعية. لقد كانت محصلة حساسيته الشعرية الحاصلة منذ منتصف الستينات.”[6] بعد حصوله على الباكلوريا سنة 1968، التحق عبد اللطيف بشعبة الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. وانكب على التحصيل العلمي. فقد كان “حريصا على أداء واجباته الجامعية كاملة، يهيئ العروض ويقرأ محاورات أفلاطون، ويعتني بنصوص جون جاك روسو ومونتسكيو، كما كان يهتم بالفلسفة المادية التاريخية، وبالأفق الذي فتحته في تاريخ الفلسفة. ويحرص على القراءة في خزانة الكلية وفي المكتبة الوطنية، وكذا خزانات السفارات التي كانت أقسامها الثقافية ترخص باقتناء الكتب للطلبة.”[7] غير أنه لم يغفل قضايا الوطن التي تربى على الاهتمام بها في العائلة. انخرط عبد اللطيف بنشاط في النضال الطلابي. و تمرس “بالعمل النقابي في إطار الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، الذي كان يشكل جامعة موازية، كما حصل لديه وعي بطبيعة الصراع السياسي في المغرب نهاية الستينيات، مع اقتراب متردد سنة 1969 من حزب التحرر والاشتراكية (الحزب الشيوعي المغربي سابقاً وحزب التقدم والاشتراكية اليوم).”[8] و كان ظهور الجبهة الموحدة للطلبة التقدميين تعبيرا عن انبثاق تيار سياسي جديد هو اليسار الماركسي. و رغم أن عبد اللطيف  لم يكن “يتدخل في التجمعات العامة”[9]، إلا أنه كانت له أدوار قيادية داخل الجبهة كما يشهد بذلك رفيقه مصطفى التمسماني. وقد كان من المنشطين الرئيسيين لمجلتها الحائطية بل كان يساهم في كتابتها بخطه الجميل. انتقل عبد اللطيف بسرعة من النشاط الطلابي إلى النشاط السياسي فالتحق بمنظمة إلى الأمام مباشرة بعد تأسيسها في غشت 1970. وفي مطلع سنة 1971، أخبر صديقه كمال عبد اللطيف الذي كان يقيم معه في نفس الغرفة أنه “يترك الجامعة، ليتفرغ للعمل السياسي. مشيراً إلى أن العمل الذي ينتظره أكبر من الشهادة الجامعية.”[10] وقد أهلته ثقافته الفلسفية وإتقانه للغة العربية إضافة لمؤهلاته القيادية لأن يلعب، رغم صغر سنه، أدوارا طلائعية في مسار “إلى الأمام”.

“دينامو” إلى الأمام 

اختير عبد اللطيف زروال عضوا في الكتابة الوطنية لمنظمة “إلى الأمام” خلال ندوتها الوطنية الأولى التي انعقدت يومي 31 دجنبر 1971 و 1 يناير 1972. ولم يمر عن ذلك سوى بضعة أشهر حتى دفعته حملة الاعتقالات الواسعة التي مست الحركة الماركسية اللينينية المغربية للدخول إلى السرية. وقد حكم عليه لاحقا بالسجن المؤبد غيابيا في محاكمة المجموعة 44 سنة 1973. لعب عبد اللطيف، باعتراف رفاقه دورا هاما في النقاش الذي عرفته المنظمة حول الأخطاء التي سهلت اعتقالات ربيع سنة 1972 وحول الخطوط العامة لعمل المنظمة لتلافي مثل هذه الضربات والتقدم في اتجاه تحقيق أهدافها : بناء حزب البرولتياريا المغربية الذي سيقود بتحالف مع الفلاحين الفقراء ثورة شعبية ضد النظام الملكي بغية إقامة جمهورية المجالس الشعبية كمرحلة أولى نحو الاشتراكية. ساهم عبد اللطيف في صياغة أغلب الوثائق التي أصدرتها المنظمة في الفترة ما بين 1972 و1974. كان الطموح الذي يحذوه، وهو القادم من عائلة لها ارتباطات بالبادية، هو تبيئة الماركسية في التربة المغربية وبناء خط ثوري ملائم لأوضاع بلد مثل المغرب يستند إلى إرث ثقافي ونفسي وتنظيمي أصيل متراكم من صراع القبائل ضد نهب الدولة المخزنية والغزاة الأجانب لأرضها وثرواتها. كان الاقتراب أكثر ما يمكن من الواقع المغربي هما يسكن عبد اللطيف و يشغله في أدق تفاصيل حياته و يمكن لكل من يتعرف عليه عن قرب أن يلمسه.  يقول رفيقه مصطفى التمسماني: “منذ اللقاء الأول مع عبد اللطيف وفي إطار المخالطة معه تكتشف أنه ملتصق بالأرض دون أن يصرح بذلك […] فهو يتكلم لك عن القرية كثيرا. فالعالم القروي تعرفنا عليه بواسطة زروال  […] وعالم الجماهير الشعبية الحقيقية تعرفنا عليه كذلك بواسطته وكذلك نكته مرتبطة بهذا الإرث الثقافي الشعبي”[11].

ورغم قساوة حياة السرية، حافظ عبد اللطيف على تفاؤله الثوري وأمله في التحقق القريب لأحلامه بالتحرر والانعتاق. وكان يستمد إيمانه القوي بعدالة القضية التي يناضل من أجلها من حبه العميق لشعبه وتألمه للمعاناة التي يعيشها جراء اختيارات نظام فاسد قائم على القمع والنهب بحماية من القوى المتنفذة عالميا. لقد كان مستعدا لكل التضحيات اللازمة حتى تزول هذه المعاناة ويحيا الوطن حرا والشعب سعيدا. لذا كان يؤمن أن الإنسان قادر على الانتصار على آلة التعذيب مهما كانت همجيتها. و لقد كان نموذج المناضلين الفيتناميين (الذين كانوا يعمدون إلى قطع لسانهم، إذا ما اعتقلوا، من أجل ألا يبوحوا بأي شيء حول رفاقهم في  التنظيم) حاضرا في ذهن عبد اللطيف[12]. لقد جسد ذلك بصموده البطولي حتى الموت أمام التعذيب الوحشي الذي تعرض له.

وبالنسبة لشاب في مثل سنه، كانت حياة السرية تعني الحرمان من العديد من الأشياء المهمة كزيارة العائلة و بناء علاقة عاطفية. يقول رفيقه “مصطفى خلال ” الذي تعرف عليه في إطار العمل التنظيمي داخل إلى الأمام سنة 1973: “حدثته  عن  قصة  حب كنت  أعيشها  وكانت المحبوبة  رفيقة  لي  في  النضال  وكان  عبد  اللطيف  يعرفها إذ كانت  تلك  الفتاة  من  بين  الطالبات  القلائل  اللاتي  كن  ينتمين  لتنظيمنا. وسألته  بدوري  مرة  هل  يحب هو  الآخر  فتاة  ما.  صمت بضع  ثوان  وقال  لي:”هل  تعرف  فتاة  تقبل  بوضعي  كمناضل  يعيش  في  السرية ؟”[13] و لقد كان الحرمان من رؤية والديه يسبب له ألما و حزنا بالغين “إلى درجة  أنه  في  إحدى  أماسي  شهر  مارس  1973، لم  يستطع  على  هذا  الحرمان  صبرا. هكذا غامر الشهيد وخرق  التعليمات  النضالية وراح  إلى  مدينة  برشيد حيث  كان  بيت  العائلة  وما  أن  اقترب  من  البيت  حتى  ضغط  عليه  حدس  غريب  أن  يرجع  موحيا  له  أن  مغامرته  غير  مضمونة  العواقب. ورجع  أعقابه.”[14] يقول مصطفى خلال: “حكى  لي  هذه  الواقعة  في  ألم  ما  زلت  أذكره  إلى  اليوم. اغرورقت  عيناه  الكبيرتان  السوداوتين  بأهدابهما  الكثيفة  بالدمع. “[15] و في إحدى المرات ذات مساء بداية سنة 1974، كان يمر قرب حي عين الشق بالبيضاء في سيارة يقودها رفيقه أبراهام سرفاتي حين لمح أمه التي لم يرها منذ مدة طويلة. يقول أبراهام عن هذه اللحظة المؤثرة في رسالة غير منشورة وجهها لوالدي عبد اللطيف : “منعته ذلك المساء من الذهاب إليك لتقبيلك. لقد طلب مني أن أتوقف لكي يراك لحظات إضافية. لقد تأثر تأثرا بالغا و ظل متأثرا ذلك المساء كله.” يضيف أبراهام: “وذات يوم في شهر شتنبر 1974، حين بدأنا نحس بالطوق البوليسي يضيق علينا، في هذه الحياة حيث الطموحات الحميمية ممنوعة، قال لي كم يتمنى لو كان له طفل سيكلفك بتربيته كما ربيته هو نفسه.”    

لم يكن لهذه الخصال إلا أن تؤثر على رفاقه المحيطين به. يقول سرفاتي في مقال بعنوان “معلمي زروال” كتبه بمناسبة الذكرى الخامسة لاستشهاد عبد اللطيف : “رشيد[16] يا رفيقي، رشيد يا معلمي/ فضلك علي كبير ولكن كونك معلمي هي العلامة التي بقيت محفورة في داخلي بعمق أكبر. فرغم كل سنوات النضال، وأي نضال، بقيت بورجوازيا، ورغم صعوبات السرية الجمة جعلتني أكتشف […] أدق حركات السلوك البروليتاري، العناية التي كنت توليها لأبسط الأشياء في الحياة اليومية، الانضباط الذاتي أصبح طبيعيا، قيامك التلقائي بأبسط الأشياء الأعمال في الحياة الجماعية وفي كل هذا كنت تتصرف بظرافتك المعهودة، هذه الظرافة التي جعلت أحد الأقرباء الذي لم يعرف عنك الكثير سينعتك ب “العذب”.” كما اعتبر صديقه الحميم المشتري بلعباس أن جزءا من كيانه قد غاب باعتقال عبد اللطيف[17]. “فقد كان عبد اللطيف إنسانا مرحا ومن الصعب أن تجد له أعداء”[18]. وقد جعله صموده واستشهاده البطوليين يشغل مكانة خاصة في ذاكرة اليسار المغربي.

الشهيد الحي 

رغم مرور 41 سنة عن اغتيال عبد اللطيف زروال والادعاءات الزائفة للدولة حول الإنصاف والمصالحة وطي صفحة الماضي، لم تعرف قضيته طريقها إلى الحل العادل والمنصف. ففي البداية، أنكرت الدولة علمها باعتقاله قبل أن تعترف بوفاته لكن بأسباب “طبيعية” بعد “إلقاء القبض عليه” في محاولة لتزوير أسباب الوفاة.[19] كما دفن عبد اللطيف بمكان مجهول حتى اليوم. ولم يأت التقرير النهائي لهيأة الإنصاف والمصالحة بجديد في القضية. فقد اكتفى بالتوصية باستكمال البحث لتحديد المكان الذي دفنت به جثته. علما أن أحد أعضاء الهيأة سبق له أن زار العائلة لإخبارها بأن رفات عبد اللطيف يوجد بإحدى مقابر الرباط (حي الشبانات). لم تتم متابعة تنفيذ هذه التوصية من طرف المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان ثم من طرف المجلس الوطني لحقوق الإنسان. ولتحريك الملف وكسر الجمود الذي تعرفه القضية وإيجاد حل منصف وعادل لها (أساسه الكشف عن الحقيقة حول ظروف اختطاف وتعذيب وقتل عبد اللطيف زروال ومحاكمة المسؤولين عن هذه الجرائم البشعة وتسليم رفاته لعائلته)، أسس عدد من الفعاليات السياسية والحقوقية والإعلامية[20] سنة 2009 لجنة لمتابعة القضية ينسق عملها عضو المكتب المركزي للجمعية المغربية لحقوق الإنسان الطيب مضماض. وقد عملت “لجنة كل الحقيقة حول مصير عبد اللطيف زروال” على جمع شهادات حول الشهيد في إطار حفظ الذاكرة ومراسلة الجهات المسؤولة بخصوص الرفات و مساءلة المجرمين عن هذه الجريمة. كما عملت على تنظيم حملة لتعبئة الرأي العام وطنيا ودوليا وتوقيع عرائض. وفي سنة 2010 وبمبادرة منها، قدم فريق من المحامين ينسقه الأستاذ النقيب عبد الرحمان بن عمرو[21]، شكاية باسم العائلة لدى قاضي التحقيق بمحكمة الاستئناف بالرباط قصد فتح تحقيق مع الجلادين قدور اليوسفي وبوبكر الحسوني والمتعاونين معهم من أفراد الفرقة الوطنية للشرطة القضائية ومسؤولين في مستشفى ابن سينا. بعد مسلسل قضائي دام قرابة خمس سنوات تم فيه نقض قرار غرفة المشورة بمحكمة الاستئناف مرتين من طرف محكمة النقض (المجلس الأعلى سابقا)، قررت الأولى (غرفة المشورة بمحكمة الاستئناف) إلغاء قرار عدم فتح تحقيق بخصوص جريمة إخفاء الجثة على اعتبار أن الجرائم الأخرى الواردة في الشكاية[22] تقادمت حسب القانون الجنائي المغربي رغم أنها غير قابلة للتقادم في القانون الإنساني لأنها جرائم ضد الإنسانية. لهذا تصر العائلة على ضرورة محاكمة مرتكبيها ولو تطلب الأمر اللجوء إلى القضاء الدولي. رغم ذلك، يمثل هذا الحكم القضائي انتصارا صغيرا وجزئيا في المعركة الطويلة التي تخوضها عائلة الشهيد ومعها الحركة الديمقراطية المغربية منذ 41 سنة وهي التي تعلم علم اليقين أن الحل المنصف والعادل لملف اختطاف وتعذيب واغتيال عبد اللطيف زروال وغيره من شهداء هذا الوطن وملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان عموما رهين بتحقيق تقدم حقيقي ونوعي في نضال شعبنا من أجل الديمقراطية والكرامة والعدالة الاجتماعية.

قبل ثمان سنوات، اتصل بي أحد الصحافيين الشباب لأربط له الاتصال بوالدي عبد اللطيف زروال قصد كتابة مقال بإحدى الأسبوعيات الناطقة باللغة العربية. فسألته عن سبب اهتمامه بالموضوع وهو الشاب الذي لم أعرف عنه التزاما نضاليا. فأجابني بأن أحد زملائه بمعهد الصحافة ينحدر من مدينة برشيد. وقد حكى له عن الروايات الغريبة التي تروج عن عبد اللطيف زروال من قبيل أنه مثل أمام الحسن الثاني أثناء اعتقاله. فاستغربت لعدم علمي بهذه الرواية وأنا الذي قضيت سبع سنوات ببرشيد دون أن أسمع عنها. حينها أيقنت أن الشعوب لا تنسى رموزها. فمهما طال الزمان ومهما تعددت الانكسارات والهزائم فإن إرادة التحرر والانعتاق تتغذى من بطولات الماضي لتبني المستقبل.

لهذا فإن عبد اللطيف زروال الذي دفع ضريبة حبه للوطن موتا، باركت حبيبته تضحيته برفعه لمصاف الشهداء الأحياء الذين لا يموتون[23]. لقد صار :  

“فصلا خامسا

أكثر نشوة من الربيع

أكثر غنائية من الخريف

فصلا لا مجال فيه للحركة

فصلا

تترعرع فيه جذور الأفكار

وتزهر أيدي الرجال “[24].

تمارة في 2 نونبر 2015

[1]الذي نقل إليه جراء تدهور حالته الصحية بسبب التعذيب والاعتقال في درب مولاي الشريف منذ شهر ماي 1974.

[2] – انظر شهادة عبد الرحمان نودا: “رقدت فوق نفس السرير الذي توفي فوقه عبد اللطيف زروال” المنشورة في أسبوعية “الحياة”، العدد 98، 25-31 مارس 2010 ص: 9  .

[3] – يقصد المعتقل السري “درب مولاي الشريف”.

[4]  – من شهادة غير منشورة ل”مصطفى خلال” ل”لجنة كل الحقيقة حول مصير عبد اللطيف زروال“.

[5] شهادة “كمال عبد اللطيف” ل”لجنة كل الحقيقة حول مصير عبد اللطيف زروال”.

[6]نفس المصدر السابق.

[7] نفس المصدر السابق.

[8]  – نفس المصدر السابق.

[9]  – من شهادة غير منشورة لـ”مصطفى التمسماني” لـ”لجنة كل الحقيقة حول مصير عبد اللطيف زروال.

[10]  – شهادة كمال عبد اللطيف.

[11]  – شهادة مصطفى التمسماني.

[12] – يحكي “مصطفى خلال” في شهادته عن عبد اللطيف: “قال لي مرة بأن المناضلين الفيتناميين، ومن أجل ألا يصرحوا برفاقهم في  التنظيم إذا ما  حدث أن اعتقل الواحد منهم كان يعمد إلى قطع لسانه”.

[13]  – نفس المصدر السابق.

[14]  – نفس المصدر السابق.

 [15]  – نفس المصدر السابق.

 [16]  – أثناء السرية، كان لعبد اللطيف عدد من الأسماء المستعارة من بينها محمود و رشيد.

[17]  – نظر شهادة المشتري بلعباس المنشورة في الصافي الناصري، لحسن العسبي، أقصى اليسار بالمغرب، مقارعة نبيلة للمستحيل، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2002.

[18]  – نفس المصدر السابق.

 [19]   – فيما قدمت النيابة العامة، في محاكمة سنة 1977، شهادة طبية مسلمة من مدير مستشفى ابن سينا تشير إلى موته بسبب “أوديما مبرحة في الرئة”، كانت الشرطة القضائية وعلى رأسها الجلاد اليوسفي قدور قد ادعت في بحثها التمهيدي “أن سبب وفاة عبد اللطيف عائد إلى ألم مبرح في المعدة اشتكى منه بمجرد ما ألقي عليه القبض”.

[20]  – يتعلق الأمر حسب البلاغ التأسيسي بكل من: عزيز لوديي، عبد الرحمان بنعمرو، عبد الإله بنعبد السلام، عبد اللطيف زروال، عبد الله الحريف، خالد الجامعي، محمد الصبار، عبد الرحيم الجامعي، زهور أزلاف، الطيب مضماض، علي أنوزلا، حسن حاج ناصر، العربي معنينو، سعيد السكتي. و قد التحق آخرون باللجنة فيما بعد. و يتعلق الأمر بأحمد ويحمان، حسن أحراث، عبد الرحيم الخادلي و الحسين بوسحابي.

 [21] – أحمد آيت بناصر و محمد صادقو  ضم فريق المحامين كذلك الأساتذة: عبد الرحيم الجامعي.

[22]  -يتعلق الأمر بالجرائم التالية: الاختطاف، تعذيب المخطوف، استعمال التعذيب في ارتكاب جناية، التسبب العمدي في القتل الذي يسبقه أو يصحبه أو يعقبه جناية أخرى، عدم التبليغ بارتكاب جناية، التزوير في وثائق رسمية، استعمال وثائق مزورة.

 [23] أ – لم ينه عبد اللطيف زروال قصيدته “عن الحب و الموت” بالقول:

 “ها أنذا أدفع الضريبة

فلتباركي موتي يا حبيبة”

[24] – مقطع من القصيدة التي كتبها الشاعر عبد اللطيف اللعبي رثاء لعبد اللطيف زروال و هي بعنوان “فارس العطاء”. نشرت في ديوان “أزهرت شجرة الحديد”.

قد تعجبك أيضاً

اترك تعليقًا