الرئيسية » بين البيانات والبنادق: أزمة اليسار الشيوعي في زمن المجازر

بين البيانات والبنادق: أزمة اليسار الشيوعي في زمن المجازر

الثورة ليست وعدًا مؤجلًا، بل ممارسة يومية. والتحرر لا يُمنَح، بل يُنتَزع.

كتبه user B

أيوب حبراوي

في زمن تتساقط فيه الأقنعة، ويُمارَس القتل علنًا في غزة، ويُعاد رسم موازين القوى الإقليمية على وقع الدماء، لا يمكن لليسار الشيوعي العربي والمغاربي أن يختبئ خلف الشعارات أو يكتفي بالبيانات.

لم يكن هذا اليسار صامتًا كما يدّعي البعض. على العكس، أدان الجرائم، نظّم وقفات، وأصدر بيانات شجاعة تفضح الصهيونية وتدين الإمبريالية وتعبّر عن تضامن لا يُساوَم.

لكن السؤال الجوهري لم يعد: “هل قال شيئًا؟”

بل: “لماذا لم يعد ما يقوله يغيّر شيئًا؟”

منذ عقود، تراجع اليسار الشيوعي عن موقعه كقوة سياسية فاعلة. تراجُع لم يكن فقط بسبب القمع أو الردة النيوليبرالية، بل أيضًا بسبب أزمة بنيوية داخلية، أضعفت قدرته على التأثير وصناعة البديل.

اليوم، وعلى الرغم من صحوة الضمير التي تحرّكه، تجده غائبًا عن المعادلة الكبرى التي تُدار فيها الملفات الحارقة في المنطقة، من فلسطين إلى لبنان، ومن اليمن إلى السودان.

مواقفه تُحترم، لكن لا يُحسب لها حساب.

هذا التناقض المؤلم بين المبدئية والعجز يعكس خللًا في البناء السياسي والتنظيمي. فاليسار الذي لا يملك أدوات القوة على الأرض – من قاعدة جماهيرية، ونفوذ نقابي، وتنظيم طلابي، وبرامج ملموسة – لا يمكنه أن يكون أكثر من شاهد نزيه، لكنه عاجز عن التدخل في مجرى الصراع.

والأخطر من ذلك، أن هذا الضعف دفع بعض أطراف اليسار إلى التعلّق بمحاور قائمة، لا كاختيار استراتيجي واعٍ، بل كبديل عن غياب المشروع الذاتي.

أصبح بعضهم يراهن على “محور المقاومة”، لا من موقع نقدي مستقل، بل كتكيّف مع موازين القوى، مكتفين بدور المساندة، ولو من الهامش.

تحوّل البعض إلى مروّج لخطابات غيره، ناسخ لما يُقال في منابر لم يصنعها، بدلًا من بناء خطه السياسي وتنظيمه الثوري المستقل. لا أحد يُنكر أن هناك من يواجه الإمبريالية فعليًا، وأن التناقض مع الصهيونية ليس حكرًا على اليسار. لكن الخطر هو أن تذوب هوية اليسار داخل سرديات ومشاريع لا تشترك معه إلا ظرفيًا، وتختلف معه جذريًا في البنية، والمنظور، والمصالح الطبقية.

إننا لا نطلب من اليسار أن يعادي كل قوة خارج صفّه، بل أن يحافظ على موقعه المستقل، وتحليله الطبقي، ورؤيته الجذرية للصراع. و الاهم ان لا ينسخ شعارات يعي ان مضمونها يميني ديني،قومي.

لأن من لا يملك خطه، يُستعمل في خطوط غيره.

إن انكفاء اليسار إلى البيانات لا يكفي. ما جدوى البيان إذا لم يُترجم إلى قوة على الأرض؟

ما جدوى الإدانة إذا لم تُرافقها تعبئة، تنظيم، وصراع يومي في الشارع والمعمل والجامعة؟

إن الشعب الفلسطيني اليوم لا يحتاج فقط إلى التضامن، بل إلى يسار عربي يعيد ترتيب المعركة على أسس ثورية شاملة، ترفض كل المحاور التي تتقاسم الجثة، وتبني بديلًا من قلب الشعوب.

هذا اليسار لن يُستعاد عبر تحسين لغة البيانات، بل عبر الاشتباك مع الواقع، وبناء أدوات التغيير، واستعادة الدور الطبيعي كمحرّك للتاريخ.
لا ثورة بدون تنظيم، ولا تحرر دون مشروع واضح، ولا مواجهة دون موقع في ميدان الصراع.

إننا في لحظة تاريخية لا تقبل أنصاف المواقف.

فإما يسار ثوري يُنتزع من الهامش، أو خطاب جميل يُلقى على المقابر.

إن الأزمة الذاتية لليسار الشيوعي لا تنفصل عن مساره خلال العقود الماضية، حين راكم تنازلات على مستوى الارتباط بالجماهير، وغادر الميدان الطبقي شيئًا فشيئًا.

في مقابل ذلك، تكوّن نمط يساري قائم على التفاعل الداخلي، على الحلقات المغلقة، وعلى التكتل داخل المدن، في المقاهي، وعلى صفحات الفيسبوك، أكثر من تواجده في الحقول والمصانع والجامعات والهامش الشعبي.

لقد أصبحت “الهوية الشيوعية” عند البعض نمطًا ثقافيًا – معرفيًا – مغلقًا، يُنتج داخل دوائر الأصدقاء والرفاق، ولا يُختبر في الميدان ولا يتصادم مع صلابة الواقع.

ثم تأتي أزمة أخرى لا تقل عمقًا: غياب الوحدة بين التيارات الشيوعية في نفس البلد.

في مرحلة تستوجب أعلى درجات التنسيق والوحدة من أجل خوض معركة التحرر الوطني ضد أنظمة الاستبداد والتبعية، نرى كيف تُقدَّم الخلافات الثانوية والتاريخية على الضرورة الثورية.

كل تنظيم يتقوقع في شرعيته الخاصة، في رؤيته الفئوية، رافضًا كل محاولة لبناء جبهة أو تنسيق حد أدنى.

والنتيجة: تعددية بلا تأثير، وتعدد منابر بلا فعل جماهيري موحّد، وانقسام يجعل من اليسار عنصرًا هامشيًا، رغم أنه يمتلك أحيانًا الكفاءات والرؤية والتاريخ.

لكن لا يمكن تحميل اليسار وحده وزر الانعزال.

فهناك أسباب موضوعية تؤطر هذه الأزمة:
– قمع دموي ومستمر يجعل أي فعل ثوري محفوفًا بالخطر.
– هيمنة دينية تفرغ الوعي الشعبي من أي مضمون طبقي، وتُعيد تشكيله وفق ثنائيات الغيب والطاعة.
– إعلام يمارس التشويه المنهجي لكل خطاب جذري، ويربط الشيوعية بالكفر والدم والإلحاد والخيانة.
– اقتصاد هش يُغرق الناس في صراع البقاء، ويجعل التنظيم الثوري ترفًا أو مخاطرة غير محسوبة.
وأمام هذا الواقع المعقّد، يبقى غياب التكوين السياسي والفكري لدى الأجيال الجديدة داخل اليسار واحدًا من أخطر مظاهر الأزمة.

فالمناضل الجديد غالبًا ما يُرمى مباشرة إلى ساحة الاحتجاج، دون تأطير عميق، ولا دراسة للمرحلة، ولا استيعاب للمفاهيم، ولا تدريب على بناء التنظيم. يتحول إلى عنصر تعبوي، لا إلى كادر سياسي. وهذا ما يُفرغ اليسار من قوته الاستراتيجية، ويحوّله إلى آلة بيانات وإدانة، لا أداة تغيير تاريخي.

والآن ما العمل؟

كيف نعيد رسم ملامح يسار فاعل، منظم، مستقل، قادر على خوض الصراع لا تفسيره فقط؟

  1. لا بد من العودة إلى العمل القاعدي الحقيقي:إعادة بناء الارتباط بالفئات الشعبية، لا من موقع النخبة المعرفية، بل من موقع النضال اليومي، في المعامل، في الجامعات، في الأحياء الهامشية، في الحركات المطلبية الحيّة.

  2. بناء جبهة شيوعية موحدة أو على الأقل تنسيقية ديمقراطية بين مختلف التيارات الماركسية، قائمة على الحد الأدنى السياسي المشترك، تتجاوز الاعتبارات الفئوية والمزاجية، وتنطلق من الحاجة التاريخية للمرحلة، لا من الحسابات الذاتية الضيقة.

  3. الاستثمار في التكوين السياسي والفكري، عبر مدارس حزبية أو مبادرات شعبية، تعيد إنتاج الكوادر القادرة على التحليل والفعل، وتربط النظرية بالممارسة دون اختزال أو تبسيط.

  4. استعادة المبادرة الخطابية والإعلامية، عبر إنتاج محتوى ثوري جذري يتحدث بلغة الناس، لا بلغة النخبة، ويطرح بدائل واضحة تفضح النظام، وتعيد الثقة بإمكانية التغيير.

  5. الانفتاح على الإبداع والثقافة البديلة. يجب أن يحتضن اليسار الطاقات الشابة في مجالات الفن، المسرح، الموسيقى، والرسم، وأن يوفّر لها فضاءً حرًّا للتعبير والمشاركة في الفعل السياسي من موقعها. فالمعركة ضد الهيمنة لا تُخاض فقط بالشعارات، بل أيضًا بالخيال والرمز والجمال، كأدوات لبناء وعي جمعي جذري ومتحرر.

  6. لا بد من أن يعيد اليسار علاقته بالزمن: أن يكفّ عن انتظار لحظة كبرى قادمة، وأن ينخرط في الصراع كما هو، دون مثالية أو انتظارية، بروح ثورية تبني تراكُم القوة، وتُراكم الوعي، وتخلق الفُرص، لا تنتظرها.

فالثورة ليست وعدًا مؤجلًا، بل ممارسة يومية.
والتحرر لا يُمنَح، بل يُنتَزع.
ومن لا يكون حيث تصرخ الشعوب، لن يُستدعى حين تنتصر.

قد تعجبك أيضاً

اترك تعليقًا