1-توطئة: كثر مؤخرا الحديث حول التكوين المهني، خصوصا لدى الجهات الرسمية للدولة المغربية، فعقدت عديد القاءات وصدرت مجموعة من التقارير التي تتحدث عن هذا القطاع المرتبط بوزارة التعليم والتكوين المهني والبحث العلمي، هذا القطاع الذي أصبح بين عشية وضحاها محط اهتمام الجهات المسؤولة، فما الغاية من هذا الإهتمام؟ وماذا يطبخ لهذا القطاع؟ الجواب على هذين التساؤلين مرتبط بالأساس بوضع التعليم وبالسياسات التعليمة المتبعة في بلادنا منذ ستينيات القرن الـ20، والوضع الكارثي الذي أل له التعليم برمته، نتيجة تسليعة ووضع رهن إشارة الرأسمال، ولكي تكتمل مهمتهم كان من اللازم المرور لقطاع التكوين المهني لإعتبارات عدة، أهمها الوضع الهش الذي يعيشه القطاع وضعف بل وانعدام حركة طلابية مناضلة به وكذا ارتباطه أكثر بسوق الشغل خاصة القطاع الخاص، علاوة على سهولة احداث تكوينات وتدريبات تحت الطلب لتلبية حاجيات الرأسمال المحلي ونظيره الأجنبي.
ما قلناه على قطاع التكوين المهني بشكل عام ينطبق على التعليم التقني والتكوين المهني بالقطاع الفلاحي، الذي وللإشارة لا تسلط عليه الأضواء إلا ناذرا كما أنه يخضع تحت الوصاية الحصرية لوزارة الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات وهو ما يجعله منعزلا شيئا ما عن باقي منظومة التكوين المهني.
2- لمحة تاريخية عن التعليم الفلاحي بالمغرب
2-1 خلال فترة الاستعمار الى حدود 1957
يعود تاريخ تأسيس أولى المدارس الفلاحية بالمغرب التي تخرج المهندسين الى سنة 1942، حيث تم إنشاء المدرسة الوطنية للفلاحة بمكناس وبعدها تم افتتاح المدرسة الغابوية بإفران سنة 1948. وما بين سنتي 1951 و1957 تم إحداث مدارس فلاحية تطبيقية (مدرسة Xavier Bernard بالمحمدية سنة 1951، مدرسة البستنة بمكناس سنة 1953، المدرسة الفلاحية بتمارة سنة 1951 والمدرسة الفلاحية بالسويهلة بضاحية مراكش سنة 1954) هذه المدارس كانت تخرج المهندسين التطبيقيين ومدة التكوين بها كانت أربع سنوات.
2-2 الفترة الثانية : مابين سنتي 1957 و1972
هذه الفترة كانت جد مهمة وغنية حيث تم خلق مؤسسات تكوين المساعدين التقنيين بمجموعة من مناطق المغرب في مختلف التخصصات، وكانت مدة التكوين محددة في ثلاث سنوات (المدرسة الغابوية سنة 1957، مدارس فلاحية بمناطق الزرايب ضاحية بركان والسويهلة والفوارات ضواحي مدينة القنيطرة سنة 1968 ومدرسة الهندسة القروية والطبوغرافية بمكناس سنة 1972 ومدرسة الميكنة الفلاحية ببولقنادل-سلا في نفس السنة). هذه الفترة كذلك تم خلق مراكز التكوين التقني سنة 1969.
تم كذلك خلق مسلك الاقسام التحضيرية للولوج للمدارس الزراعية الفرنسية أول مرة بالمغرب سنة 1962 بثانوية مولاي يوسف بالرباط، وسنة 1967 سيتم إنشاء مديرية خاصة للتعليم الفلاحي والتكوين المهني تابعة لوزارة الفلاحة، وسنة 1968 تم تنظيم مناظرة وطنية بضاحية المحمدية -اللويزية- حول التعليم الفلاحي والذي تمخض عنها نظام جديد للتعليم الفلاحي بالمغرب، وفي نفس السنة تم خلق معهد الزراعة بالرباط سنة ليتحول لمعهد الزراعة والبيطرة سنة 1972 بعد إضافة شعبة البيطرة. وسنة 1970 تم إنشاء المدرسة الوطنية الغابوية بسلا.
2-3 الفترة الثالثة : من 1980 إلى 2000
خلال هذه العشرين سنة والتي تزامنت مع سياسات التقويم الهيكلي تم تطبيق “إصلاح” أخر على منظومة التكوين المهني بالقطاع الفلاحي سنة 1984 وهو ما سيتمخض عنه إقرار ثلاث مستويات في التكوين المهني بالقطاع الفلاحي وهم :- مستوى التأهيل وهو مفتوح في وجه أبناء الفلاحين الصغار الذين يتوفرون على مستوى الثالث الإعدادي – مستوى التقني وهو مفتوح أمام التلاميذ أصحاب مستوى الباكلوريا – مستوى تقني متخصص للحاصلين على البكالوريا. سيتم تفعيل مقتضيات هذا “الإصلاح” بدءا من سنة 1996.
خلال هذه الفترة كذلك وبالضبط سنة 1982 تم إحداث شعبة العلوم الزراعية بالعديد من الثانويات الفلاحية بالمغرب، وسيتم إطلاق مشروع (قدرة-تكوين-شغل) مابين سنتي 1991 و1993 وبعدها تم إصدار القانون رقم 36-96 الخاص بتأسيس وتنظيم التكوين المهني التناوبي.
2-4 الفترة الرابعة : من سنة 2000 إلى اليوم
تميزت هذه الفترة بالاستمرار في إصدار القوانين والمشاريع دائما في إطار “الإصلاح” حيث سيتم إصدار القانون 12-00 والذي جاء لينظم عملية التكوين بالتدرج كما تم إطلاق مشروع تكوين 300.000 شاب قروي. وما بين سنتي 2000 و2003 تم إعطاء الإنطلاقة لأولى التجارب الخاصة بمقاربة القدرات بمؤسسات التقنيين المتخصصين خاصة بمدينتي مكناس والمحمدية.
وما بين سنتي 2003 و 2009 تم إعادة هيكلة نظام التكوين المهني بالقطاع الفلاحي مع بداية تعميم البرامج الجديدة التي يتم إنشاؤها بنظام مقاربة القدرات، أما خلال الفترة من 2008 إلى سنة 2010 فتميزت بإنتاج مخططات قطاعية “للتنمية والتكوين” بالقطاع الفلاحي وكذا إطلاق مخطط للتدريب المهني خاص بالشباب القروي وأخر خاص بالتكوين في الصناعات الغذائية.
3- كيف تدبر وزارة الفلاحة التعليم التقني والتكوين المهني بالقطاع الفلاحي؟
في إطار المرسوم 168-09-2 الذي صدر في 21 ماي 2009، الذي حدد تنظيم و مهام المديريات المركزية لوزارة الفلاحة والصيد البحري آنذاك، والذي كذلك من بين مهام الوزارة إرساء استراتيجية للتعليم العالي الفلاحي والبحث والتكوين التقني والمهني بالقطاع الفلاحي، ولهذا الغرض تم إنشاء مديرية التعليم والتكوين والبحث (DEFR). كما تم كذلك وهذا بطبيعة الحال في إطار مرامي الوزارة لإنجاح مخطط “المغرب الأخضر”، حيث عمدت الوزارة إعطاء المديريات الجهوية للفلاحة مهمة قيادة وتنسيق ومتابعة برامج التعليم التقني والتكوين المهني بالقطاع الفلاحي على مستوى كل جهة، بحيث أن من بين المصالح المتواجدة بالمديريات الجهوية مصلحة خاصة بالتعليم التقني والتكوين المهني والبحث تابعة لقسم الشراكة والدعم التنموي.
يلاحظ مما سبق أن العقلية السائدة بوزارة الفلاحة لصاحبها المقرب جدا من المخزن هي عقلية تسليعية تجعل التعليم الفلاحي في خدمة سياساتهم الفلاحية والذي شكل “مخطط المغرب الأخضر” أحد حلقاته والذي تم تجاوزه ب”الجيل الأخضر” دون تقييم، لكن ما هو مؤكد أن سياسة الوزارة لن تتغير في علاقتها بالتعليم التقني والتكوين المهني لأنها بالمقام الأول تسعى لوضعه (أي التكوين المهني بالقطاع) في خدمة مخططاتها ولتلبية حاجيات المستثمرين ورؤوس الأموال بالقطاع الفلاحي.
4- أهداف ومرامي التكوين المهني بالقطاع الفلاحي : سخاء مطلق اتجاه الباطرونا الزراعية
الأهداف المعلنة من طرف وزارة الفلاحة فيما يخص المستويات الثلاث للتأهيل والتكوين المهنيين، وتلخصها في هدفين يتيمين وهما : الهدف الأول وهو تلبية حاجيات المقاولات والضيعات الفلاحية بالموارد البشرية المؤهلة أما الهدف الثاني وهو مرتبط بالأول وهو المساهمة في تحسين تنافسية المقاولات والضيعات الفلاحية.
من هنا يتضح أن وزارة الفلاحية أولا هي صريحة في أهدافها التي تختزلها في رهن التعليم التقني والتكوين المهني والـتأهيل الفلاحي لفائدة المقاولات والضيعات الفلاحية المحلية ونظيرتها الأجنبية ومدها بالموارد البشرية المؤهلة وبثمن بخس ينضاف الى عديد الامتيازات التي تغدق بها الدولة على الباطرونا الزراعية (إعفاءات ضريبية،تسهيلات وتغاضي في التصريح بالعمال الزراعيين،استغلال مكثف للفرشة المائية…).
بذلك تكون الدولة تلعب فقط دور الوسيط، حيث تقوم بتكوين الطلبة في سنتين مقسمة بين تكوين نظري وأخر تطبيقي وتقوم بإمداد سوق الشغل بحاجياتها من الموارد البشرية في تخصصات معينة، حيث أن حاجة السوق هي التي تحدد التخصصات التي تدرس بالمعاهد الفلاحية، والقلة القليلة هي من يتم توظيفها بمسالك وزارة الفلاحة والمؤسسات العمومية التابعة لها، في حين أن جزء أخر يلتحق بصفوف المعطلين خاصة في العالم القروي.
خلال شهر فبراير 2020 بجماعة اشتوكة ايت باها أعطى رئيس الدولة إطلاق الاستراتيجية الفلاحية الجديدة والتي اختاروا لها اسم “الجيل الأخضر” (2020-2030) وكذا الاستراتيجية المرتبطة بتطوير قطاع المياه والغابات “غابات المغرب”، وبإطلالة خفيفة على محور التعليم الفلاحي في هذه الاستراتيجية الجديدة نجد أن الدولة ستستمر في نفس سياستها في هذا المجال وبدرجة أقوى في تخريج الآلاف من الشباب والذي يتشكل في معظمه من شباب البادية المغربية ووضعهم بين مخالب المفترسين (الباطرونا الزراعية)، حيث نجد ان الدولة ستعمل على تكوين 140.000 شاب خلال هذه العشرية في معاهد التكوين المهني مقسمين على مختلف الجهات، وكل جهة ستكون على شاكلة قطب بها معاهد فلاحية تقوم بتكوين الشباب في التخصصات التي تحتاجها المقاولات الفلاحية في نفس الجهة.
من خلال كل ما سبق نصل لخلاصة واحدة هو أن التعليم التقني والتكوين المهني بالقطاع الفلاحي كغيره في مختلف القطاعات الأخرى الصناعية والتجارية، يخضع لنفس السياسة التي هي سياسة التسليع وتلبية حاجيات الرأسمال سواء المحلي أو الأجنبي، كذلك فالتعليم بالقطاع الفلاحي خضع في تاريخه لمجموعة من “الإصلاحات” والمخططات التي واكبت بصفة عامة قطاع التعليم والتكوين المهني ببلادنا و تبعا للتحولات الاقتصادية والاجتماعية التي عرفتها بلادنا منذ الاستقلال الشكلي إلى الأن.
إذن فمصير طلبة التكوين المهني هو نفس مصير كل طلبة المغرب وما يستوجب هو الاهتمام أكثر بطلبة قطاع التكوين المهني وإبداع أليات تنظيمية مرنة تستوعب خصوصية هذا القطاع وتستهدف تنظيمهم للدفاع عن مطالب المشروعة وكذا مواكبتهم بعد فترة التخرج سواء في حالة التحاقهم بالشغل من عدمه.