يعاني المجتمع المغربي من مجموعة من التصدعات، تتراوح بين أزمات اقتصادية واجتماعية وبنية تحتية هشة، وبين فئة شبابية تعاني من الإحباط بسبب القمع المخزني، هذا الأخير الذي لم نشهد كثافته في الكوارث الطبيعية والبنى التحتية لأقاليم الجنوب الشرقي لحماية الساكنة من الفيضانات، نجد مشهدا آخرا من بين المشاهد التي اعتاد الجمهور المغربي عليها، وهي حادثة التحرش التي تعرضت لها الشابة المغربية في أحد الشوارع المغربية من قبل مجموعة من الشباب مستدْمجين لفكرة الحق في التدخل ولمس الجسد الأنثوي فقط لأن هذا الأخير مكشوف على حساب “الحس المشترك”، الشيء الذي يدفعنا لطرح تساؤلات كبيرة بين الحرية الفردية بمفهومها الجدلي وبين القيم المحافظة.
نعي جيدا التعارض الكبير بين تيار محافظ متشبث بالقيم التقليدية والمعايير والطقوس التي ترتبط بالعفة والحشمة، والتي تتجلى ضمن منظومة ثقافية سائدة التي تسمح لنفسها بممارسة السلطة الذكورية على الجسد الأنثوي، وبين منظومة ثقافية مناقضة التي تساهم في نشر القيم التحررية الهادفة والداعمة لإرساء قيم المساواة والحرية الفردية، ما يعري حقيقة الصراع الثقافي بين هذين التيارين في المجتمع.
إن تعزيز القيم والمعايير السائدة داخل النظام الاجتماعي، لا سيما في قضية المرأة، يقودنا إلى تحليل جذري للواقع الاجتماعي الذي يعاد إنتاجه ضمن سيرورة اجتماعية وتاريخية. ومن خلال هذا التحليل، يمكننا استكشاف وضعية المرأة في المجتمعات التي تعاني من التخلف الاجتماعي، حيث تحدد أدوارها وفقا لنماذج تقليدية تكرس الفوارق الطبقية داخل البنية الاجتماعية. وكما أشارت ألكسندرا كولونتاي، فإن “تحرر المرأة لا يمكن تحقيقه إلا بتحرر المجتمع بأكمله من القوالب الاجتماعية القديمة التي تربط المرأة بأدوار تبعية”.
إن تحليل مثل هذه الظواهر الاجتماعية يلزم علينا الاستدلال بمجموعة من المقاربات التي تحيلنا للفهم العميق لهذا الموضوع، وهنا نتحدث عن مقاربة النوع، فمن خلال النظر إلى هذه الحادثة عبر هذه المقاربة (الجندر)، نلاحظ أن الأدوار والتمثلات الاجتماعية لكل من الجنسين تلعب دورا حاسما في تفسير سلوك التحرش والعنف تجاه النساء، هذه المقاربة ترتكز على كيفية بناء المجتمع للفروق بين الجنسين وتكريسها من خلال مؤسسات اجتماعية وثقافية: الأسرة، المدرسة، الشارع، الإعلام، المسجد…
في المجتمعات المحافظة، مثل المجتمع المغربي، يعتبر جسد المرأة موضوعا دائما للسيطرة، ويتم استخدام الرموز الثقافية والدينية لفرض القواعد المتعلقة باللباس والسلوك، في هذا السياق، ينظر إلى الخروج عن “القواعد” المتفق عليها مجتمعيا (مثل اللباس القصير) على أنه انحراف على الأعراف السائدة، مما يبرر ضمنيا العنف أو التحرش كرد فعل “طبيعي” أو “مبرر”، وهذا ما يسمى بـ”الرقابة الاجتماعية على أجساد النساء”، حيث يتم تحميلهن مسؤولية حماية أنفسهن من خلال الامتثال لهذه القواعد، وهنا نتحدث كذلك عن الانحراف الاجتماعي.
وفقا لمقاربة النوع الاجتماعي، تكرس هذه النظرة التقليدية علاقة غير متكافئة بين الرجل والمرأة، حيث يعطى للرجل سلطة أكبر على المرأة من خلال هذه الأعراف، والتحرش يصبح هنا ليس فقط عنفا جسديا أو نفسيا، بل هو أيضا وسيلة لإعادة فرض السيطرة والهيمنة الذكورية على الفضاء العام. حيث ينظر إلى النساء اللواتي لا يمتثلن لقواعد اللباس التقليدي على أنهن يستحققن العقاب، وهنا نرى استرجاع السلطة للأعراف.
ووفقا لبيير بورديو، يعد التحرش نوعا من العنف الرمزي الذي يتجاوز الاعتداء الجسدي ليكرس التراتبية الاجتماعية بين الجنسين ويبرر السيطرة الذكورية، حيث تفرض هياكل اجتماعية غير عادلة تبدو طبيعية ومقبولة، وعندما يقبل المجتمع بفكرة أن لباس المرأة يبرر العنف، فإنه يمارس عنفا رمزيا، إذ يتم تقييد حرية المرأة في التحكم بجسدها واختيار مظهرها، ويستخدم اللباس كرمز للخروج عن الأعراف الاجتماعية المحافظة، مما يؤدي إلى تبرير العقاب وإعادة إنتاج الهيمنة الذكورية.
بينما يرى راوول سانتوس أن الهيمنة الذكورية ترتكز على اعتقاد الرجال بأنهم يملكون حقا “طبيعيا” أو “أخلاقيا” في السيطرة على النساء، وخاصة أجسادهن. فالحادثة التي وقعت لتلك الشابة هي مثال حي لهذه الهيمنة الذكورية، حيث يشعر الشباب بأن لهم الحق في التدخل في حياة الفتاة لمجرد أنها لا تلتزم بمعايير اللباس التي يرونها “مقبولة”.
يبرز أن التحرش ليس فقط فعلا فرديا ناتجا عن رغبة جنسية، بل هو سلوك اجتماعي يعبر عن هيمنة وسلطة مجموعة معينة على مجموعة أخرى.
إن التحليل الملموس للواقع الملموس يقودنا إلى المنظور الماركسي، فيمكن تحليل وتفسير ذلك في كون المجتمعات الرأسمالية تعامل الجسد الأنثوي كسلعة قابلة للاستغلال، سواء في المجال العام أو في الإعلام، حيث تستخدم صورة المرأة لترويج المنتجات أو الأفكار، هذا التسليع للجسد الأنثوي يعزز من عقلية ذكورية تستسهل التحرش والعنف، فعندما ينظر المجتمع إلى المرأة على أنها سلعة أو جسم متاح، فإن اللباس يصبح مقياسا للموافقة الضمنية على هذا الاستغلال.
السبيل للتحرر من ذلك كله تجيبنا عليه الماركسية، حيث أن الاتجاه الماركسي يربط بين النظام الأبوي (البطريركي) وبين النظام الرأسمالي، ويعتبر الهيمنة الذكورية والبطريركية نتاجا طبيعيا للنظام الطبقي، لهذا يرى أن إنهاء الاستغلال النهائي للنساء لا يتم إلا في إطار المجتمع الاشتراكي ومن تم الشيوعي الذي تنتفي فيه الطبقات.
وهذا ما يتطلب بالضرورة الربط بين الحركة النسوية الهادفة لإنهاء المجتمع الذكوري وبين الحركة العمالية الهادفة لإنهاء الاستغلال الرأسمالي الطبقي، على اعتبارهما يعانيان من نفس التحالف (البطريركية والرأسمالية)، ولا يمكن تحقيق مطالب التحرر التام لهما إلا في ظل النظام المنشود.