عرفت البورصة الأمريكية صعوداً كبيراً لم تشهد له مثيلاً منذ سنة 1933 كأكبر صعود لأسواق الأسهم خلال يوم واحد، وقد نتج عن هذا الارتفاع ارتفاع ثروة العشر أشخاص الأكثر ثراء في العالم بأكثر من خمسين مليار دولار، حيث ازدادت ثروة الملياردير الفرنسي، برنارد أرنو، لوحده لما يزيد عن 11 مليار دولار خلال يوم واحد.
لقد وصلت الرأسمالية مرحلة لم تعد المراكز الرأسمالية أو الشركات المتعددة الجنسيات فقط هي من تحتكر رؤوس الأموال، بل أصبحت الثروة تتركز أكثر فأكثر في أيدي عدد قليل من الأشخاص، حيث يرتفع عدد المليارديرات كل سنة وتصبح ثرواتهم أكبر سنة تلو أخرى، في مقابل تزايد الفقر والفوارق الطبقية.
ففي تقريرها الأخير بمناسبة انعقاد مؤتمر دافوس لسنة 2020، أصدرت منظمة أوكسفام تقريرها السنوي حول الفوارق الاجتماعي أو الطبقية، حيث أشارت إلى أن 1 بالمئة فقط من الرجال الأغنى بالعالم يمتلكون ضعف ما يملكه 6,7 مليار شخص يعيشون على الكوكب. مضيفة أن هذه الثروة تتركز بشكل كبير أو شبه مطلق بيد الرجال.
يحاول المدافعون عن النظام الرأسمالي، معتبرين إياه النظام الأكثر عدلاً وتشجيعاً على الابتكار والاستثمار، والذي يتيح لأي كان أن يصبح في بضع سنوات من أصحاب رؤوس الأموال. ربما قد يظهر هذا الطرح للوهلة الأولى صحيحاً ومنطقياً إذا ما نظرنا لبعض الثروات الحالية، لكن بالنظر إلى الوجه الآخر لتراكم للثروة ربما نستطيع أن نرى المسألة بشكل مختلف.
ففي ظل اقتصاد عالمي محدود الموارد والثروات (بالرغم من نمو الاقتصاد العالمي عبر الزمن) لا يمكن أن تتكدس الثروات في يد فئة واحدة دون تفقير فئة أخرى. إذ أنه في الوقت الذي تم تسجيل ارتفاع كبير في العشر سنوات الأخيرة في الثروات الفردية، قابله تسجيل انخفاض يكاد يكون متساوياً في ثروة الطبقة الأكثر فقراً في العالم خلال سنة 2016، حيث تم تسجيل انخفاض مضطرد لثروة النصف الأفقر من سكان الكوكب منذ سنة 2010 ليصل إلى 1000 مليار دولار، في حين أن ثروة 62 شخصاً الأغنى بالعالم ارتفعت بقيمة 500 مليار دولار في نفس الفترة.
لذلك يمكن الاستنتاج بسهولة أن تكديس الثروة من جهة يقابله تفقير أكبر من الجهة المقابلة. لكن هذا المنحى ازداد تعمقاً في السنوات القليلة الماضية. ففي سنة 2014 مثلاً كان 1 بالمئة من الأشخاص الأكثر غنى في العالم يتوفرون على ثروة تعادل ما يتوفر عليه 99 بالمئة من باقي سكان الكوكب، في حين أن الفئة الأولى أصبحت تملك في 2020 ضعف ما يملكه 92 بالمئة من سكان الكوكب. وبهذا الشكل، يتضح بلغة الأرقام أن تراكم الثروة من جهة لا يمكن أن يتم دون تفقير الجزء الآخر.
لكن البروباغندا الرأسمالية تحاول التأكيد على أن أي شخص يمكن أن يصنع ثروات مماثلة عن طريق العمل الجاد والابتكار ينطلق من لا شيء ويحقق النجاح بشكل عصامي (Self Made)، ويتم تقديم العديد من الشخصيات كجيف بيسوس، مؤسس أمازون، ومارك زوكربيرغ، مؤسس فيسبوك، أو بيل غيتس، مؤسس مايكروسوفت. لكن هذا الطرح يخفي مسألتين أساسيتين في مسألة تراكم الثروة. أولها، هو أن هؤلاء الأشخاص لم يبنوا ثرواتهم من خلال عملهم وابتكارهم فقط، لكن من خلال استغلال الآخرين بشكل أو بأخر. فإذا أخذنا كمثال بيل غيتس مؤسس شركة مايكروسوفت، فإن أغلب مصانعه كانت تتركز في دول فقيرة تضمن له استغلال العمال لساعات طويلة من العمل مقابل أجور زهيدة، هؤلاء العمال الذين يعتبرون فعلياً صانعي هذه الثروة عبر قوة عملهم، لكن الاستيلاء على الجزء الأكبر من قوة العمل هذه هو ما أتاح لشركة مثل ميكروسوفت أن تحقق هوامش ربح كبيرة في وقت قياسي.
أما إذا أخذنا مثال مارك زوكيربيرغ، فقد يقول البعض أنه لم يستغل قوة عمل أي كان، بل استطاع تطوير ثروته من خلال فكرته فقط، وهنا يمكن التطرق لشكلين من الاستغلال، أولهما هو استغلاله لموظفي شركته الذين يتم طردهم بمجرد مطالبتهم بتحسين شروط عملهم من حيث الأجر وساعات العمل، أما النوع الثاني من الاستغلال فهو استغلال كل مستخدمي موقع فيسبوك، عبر سرقة معطياتهم الشخصية ونتائج البحث على المواقع والصور وكل ما يمكن أخذه من معلومات من هؤلاء الأشخاص وبيعها لشركات الإعلانات والبحوث وكذا الحكومات.
أما المثال الثالث فهو جيف بيسوس، مؤسس شركة أمازون، الذي يجمع بين شكلي الاستغلال، أي استغلال عمال شركته الذين خاضوا العديد من الإضرابات للتنديد بظروف عملهم، أو استعمال المعطيات الشخصية للأفراد من أجل دعم المبيعات. فبهذه الطريقة، استطاع هذا الشخص أن يراكم ثروة تتجاوز 100 مليار دولار.
أما المسألة الثانية التي يخفيها دعاة الرأسمالية هو مسألة توارث الثروة، والتي تشكل الجزء الأهم من استمرار احتكار الثروة في يد نفس العائلات منذ قرون من الزمن، لكن هذه المسألة يتم التغاضي عنها لأنها تبدد وهم إتاحة الرأسمالية الفرصة لأي كان أن يحقق ثروة عن طريق الاستحقاق. فقد أشارت دراسة بريطانية أن النخبة البريطانية الأكثر ثراء بقيت تقريبا على حالها منذ 1170 وإلى غاية 2012. نفس الشيء تم تسجيله في دراسة إيطالية حول النخبة بمدينة فلورانسا بين 1427 و2011 والتي خلصت تقريبا لنفس النتائج. وتلعب مسألة الميراث دوراً أساسياً في استمرار الثروة في يد نفس العائلات، فهي لا تنقل فقط الثروات، لكن تراكم الاستغلال الذي تعاني منه الفئات الأكثر فقرا عبر عقود.
ربما لا يتسع المجال لتقديم أمثلة أكثر عن كون النظام الرأسمالي نظاماً يكرس الفوارق الطبقية ويزيد من استغلال العمال والطبقة الأكثر فقراً، فمراكمة الثروة ليست إلا مراكمة لاستغلال العمال والكادحين على مدى قرون. ويصبح حين إذ القول أن النظام الرأسمالي هو نظام يجعل الأغنياء أكثر غنى والفقراء أكثر فقرا طرحا أقرب إلى الواقع والمعطيات الاقتصادية، وليس فقط ضرباً من ضروب الديماغوجيا كما يحاول دعاة الرأسمالية تسويقه.