174
ومع تسارع وتيرة التقدم التكنولوجي في سياق العولمة، تتفاقم التناقضات والصراعات الطبقية، إذ تستخدم التكنولوجيا لتسليع المعرفة والبيانات وتحويلها إلى رأسمال يدر أرباحا ضخمة لحاملي رأس المال. وتصبح البيانات، وفقا لكريستيان فوكس، المحرك الأساسي للرأسمالية الرقمية، فشركات مثل غوغل وميتا ومايكروسوفت تجمع كميات هائلة من بيانات المستخدمين، وتستغلها تجاريا عبر خوارزميات معقدة، تخضع بالكامل لمصالح رأس المال.
وتشير المنظّرة السياسية جون دين، في دراستها The Neofeudalising Tendency of Communicative Capitalism، إلى أن المنصات الرقمية تقسم المستخدمين إلى “لوردات تقنيين” و”أقنان” يقتاتون على الفتات. فالتدفق اللامتناهي للمحتوى يحوّل الانتباه إلى مورد، ويفرغ الخطاب النقدي من قدرته على التنظيم، لتعمل الشبكات على تفتيت الوعي الطبقي بدلا من خلق فضاء عمومي. وهكذا، يلعب الإعلام دورا مزدوجا: إنتاج متعة استهلاكية وتثبيت هرمية طبقية خفية عبر الخوارزميات.
لقد شهدت البنى الاجتماعية التقليدية تغيرات عميقة أفرزت نشوء مجتمعات افتراضية أعادت تشكيل ملامح الحياة الواقعية. هذا التغير لا يقرأ كتحول خطي أو تكرار لانتقالات تاريخية سابقة، بل كتعبير عن إعادة إنتاج مستمرة للصراع الطبقي في قلب الرأسمالية المعاصرة، حيث تتبدل أشكال الإنتاج والتواصل دون أن يتغير جوهر المنطق المهيمن. فالشركات الرقمية العملاقة – المسلحة باستثمارات هائلة وبنية تحتية مادية من مراكز بيانات، وأراض، وشبكات طاقة ومياه، وجيوش من المهندسين—تظل فاعلا رأسماليا بامتياز، تبيع خدمات، وتعقد صفقات حتى مع أجهزة الدولة السيادية.
هذا الواقع أنتج بيئة اجتماعية تتميز بالسيولة: سيولة العلاقات، وسرعة تدفق المعلومات، وهشاشة البنى الرمزية، حيث تتحول الأولويات والروايات بوتيرة متسارعة. السيولة هنا ليست مجرد خاصية تقنية، بل آلية سياسية-اقتصادية تخدم إعادة إنتاج الوعي الزائف، إذ تبقي الجماعات المهيمن عليها في حالة تشتت دائم، ما يضعف إمكانات التنظيم الطبقي طويل الأمد. مما أحدث تغييرا في طبيعة الكينونة الاجتماعية. وفي هذا السياق، يركز المقال على مساءلة اختراق الرأسمالية لمؤسسة الإعلام، التي تحولت إلى ساحة صراع طبقي بامتياز. وكما يشير مانويل كاستلز، لم تعد سلطة مجتمع الشبكة تقتصر على السيطرة على الموارد المادية، بل امتدت لتشمل فضاءات التواصل والمعلومات، محولة الفضاء الرقمي إلى ميدان للصراع الرمزي.
وقد ساهم هذا الوضع في تعميق التحولات التي تشهدها البنية الرأسمالية، والتي تتجلى في الهيمنة المتزايدة للشركات التكنولوجية الكبرى. وتشير إحصائيات سنة 2024 إلى أن الإنفاق الإعلاني العالمي تجاوز عتبة التريليون دولار، تستحوذ عليه، بشكل شبه كامل، خمس شركات كبرى هي: غوغل، ميتا، أمازون، مايكروسوفت، وآبل، وفقا لتقرير Martech. ويمكن قراءة هذه الأرقام بوصفها تعبيرا عن هيمنة احتكارية ليست اقتصادية فحسب، بل أداة طبقية لإعادة إنتاج الهيمنة الاجتماعية.
ومع تسارع وتيرة التقدم التكنولوجي في سياق العولمة، تتفاقم التناقضات والصراعات الطبقية، إذ تستخدم التكنولوجيا لتسليع المعرفة والبيانات وتحويلها إلى رأسمال يدر أرباحا ضخمة لحاملي رأس المال. وتصبح البيانات، وفقا لكريستيان فوكس، المحرك الأساسي للرأسمالية الرقمية، فشركات مثل غوغل وميتا ومايكروسوفت تجمع كميات هائلة من بيانات المستخدمين، وتستغلها تجاريا عبر خوارزميات معقدة، تخضع بالكامل لمصالح رأس المال.
هذا الوضع أفرز ما يمكن تسميته بـ”الصحافة الخوارزمية”، حيث يتم إنتاج الأخبار والمعلومات وتقديمها بما يخدم الأجندات الرأسمالية، الأمر الذي يوجه الرأي العام ويعمّق الفجوات الاجتماعية والطبقية. وفي هذا السياق، نستحضر أطروحة نعوم تشومسكي في كتابه “الإعلام وصناعة الموافقة”، حيث يرى أن وسائل الإعلام الجماهيرية تعمل كنظام لتوصيل الرسائل والرموز إلى الجمهور العام، وتكمن وظيفتها في تسلية الأفراد وترفيههم وإخبارهم، إضافة إلى غرس القيم والمعتقدات وقواعد السلوك التي تربطهم بالبنى المؤسسية للمجتمع.
وفي البلدان التي تتركز فيها السلطة بيد بيروقراطية الدولة، يصبح التحكم بالإعلام امتيازا خاصا بها، وغالبا ما يكون مصحوبا برقابة رسمية، مما يؤكد أن الإعلام، في نهاية المطاف، يخدم مصالح النخب المهيمنة. كما لا يمكن فهم الخطاب الإعلامي بمعزل عن البنية الطبقية للمجتمع، فالإعلام، كجزء من البنية الفوقية، يستخدم لإعادة إنتاج العلاقات السائدة. وهنا يبرز مفهوم الوعي الزائف، الذي أشار إليه ماركس وإنجلز في “الأيديولوجيا الألمانية”، باعتباره آلية تمويهية تحول دون إدراك الطبقة العاملة لمصالحها الحقيقية، حيث تقدَّم مصالح الطبقة البورجوازية على أنها مصالح عامة، ويصور الاستغلال على أنه نظام طبيعي.
في العصر الرقمي، تتخذ هذه العملية طابعا خوارزميا دقيقا، حيث يصبح كل مستخدم “ذاتا مفردة” تخاطب بلغة مصممة خصيصا له، بناء على تحليل بياناته. وهكذا تتحول الخوارزميات إلى أدوات طبقية حديثة، لا تختلف في وظيفتها عن المؤسسات التقليدية، لكنها أكثر فعالية في إعادة إنتاج النظام القائم، كما أشار ألتوسير.
وعند النظر إلى استغلال العمل الرقمي والمستخدمين، نجد أن هؤلاء يساهمون بشكل غير مباشر في خلق القيمة من خلال أنشطتهم وتفاعلاتهم على المنصات الرقمية. وغالبا ما يكون هذا العمل غير مدفوع الأجر، ويتم جمعه ومعالجته لتحقيق أرباح لشركات التكنولوجيا الكبرى. ويرى فوكس أن هذا يمثل شكلا جديدا من أشكال الاستغلال الطبقي في العصر الرقمي، حيث يسيطر “البورجوازيون الرقميون” (مالكو الشركات التكنولوجية) على وسائل الإنتاج الرقمي، بينما يتم استغلال العمال والمستخدمين.
ومن أبرز آليات السيطرة الرقمية:
-
التحكم السلعي والإعلاني: عبر تحويل البيانات الشخصية وانتباه المستخدم إلى سلعة.
-
المراقبة والتوجيه: من خلال متابعة الأفراد وتوجيههم بطرق تخدم مصالح الطبقة المهيمنة.
-
تعزيز الهيمنة: عبر تفكيك الطبقات الاجتماعية وخلق أشكال تنافسية تضعف إمكانات المقاومة الجماهيرية.