170
يكتسي الصراع حول المفاهيم أهمية كبرى في سياق الصراع النظري/الإيديولوجي، ذلك أن التوظيف الدلالي والاستعمال التداولي للكلمات والمصطلحات والمفاهيم والعبارات لا ينفصل عن التربة التي على قاعدتها يشتغل الفكر الإيديولوجي وهي تربة الصراع الطبقي مهما تعددت تمظهراته ومستوياته ولا يستقل بنفسه داخل عالم النوايا الطيبة، سواء تم ذلك بوعي أو بدون وعي. من هنا كان التفكير في مفهوم “الاحتجاج” نابع من هاجس نقد الخطابات المتعددة حوله وحول طبيعته وتأرجحه بين الشرعية والمشروعية. وإذا كانت الدراسات السوسيولوجية تبحث في الاحتجاج كظاهرة اجتماعية محاولة توصيف ورصد وتشخيص أسبابه ومظاهره ونتائجه ودور الحركات الاحتجاجية فيه. فإن “الاحتجاج” كمفهوم فلسفي يطرح عدة إشكالات لعل أبرزها شروط التفكير في انبثاق هكذا مفهوم في حقل الممارسة العملية أخلاقيا وسياسيا وقانونيا … ولا ندعي لهذه المساهمة أنها تروم تحقيق هذه المهمة وإنما هي محاولة الكشف عن خلفيات التوظيف الإيديولوجي الثاوي وراء استخدام مفهوم “الاحتجاج” سواء في الخطاب الرسمي أو حتى الخطاب الأكاديمي على الرغم من التداخل الحاصل اليوم على الأقل عند بعض المحسوبين على فئة المحللين السياسيين. فما المقصود بالاحتجاج؟ ما هو مجاله وما علاقته بكل من الشرعية والمشروعية؟ هل يستمد الاحتجاج أساسه من الشرعية أم من المشروعية؟
عادة ما يستعمل لفظ الاحتجاج protestation بمعنى الاعتراض والرفض عبر تقديم الحجة (احتج بـ – احتج على) والمطالبة ببديل عن ما هو قائم (معطى). إلا أن مفهوم الاحتجاج من حيث هو ممارسة إنسانية قولية وفعلية لا يتأطر نظريا إلا في إطار ثنائية الحق droit و القانون la loi . وإذا كان الحق شرطا ضروريا للكرامة الإنسانية فإن القانون قاعدة عامة لتنظيم العلاقة بين طرفين أو أكثر. وهكذا يُطرح مفهوم الاحتجاج بين احترامه كحق للقاعدة القانونية من جهة واحترام هذه القاعدة القانونية نفسها للحق في الاحتجاج.
إن هذه العلاقة المزدوجة هي التي تكشف لنا على اختيار عنوان “الاحتجاج في المغرب بين الشرعية والمشروعية”. فالشرعية légalité تدل على المشروعية القانونية أي الاحترام التام للقاعدة القانونية lex. في حين تدل المشروعية légitimité على المبررات التي تسوغ قولا أو فعلا وجعله مقبولا من طرف صاحبه. من هنا سيكون الاحتجاج فعلا شرعيا باحترامه للقانون ومشروعا بارتكازه على مبررات القيام به حسب التصور التعاقدي لهذا المفهوم.
-
1- في حدود المقاربة التعاقدية لمفهوم الاحتجاج
نقصد بالمقاربة التعاقدية التصورات الفلسفية والقانونية والسياسية التي تفكر في الحق كقاعدة قانونية يتساوى فيها الحق بالواجب والقانون باعتباره مبدأ عقليا لتنظيم وضبط العلاقة بين الناس. وأساس كل من الحق والقانون هو التعاقد أي الاتفاق النابع من ضرورة عقلية لتجاوز حالة الصراع والفوضى. تعود كما هو معلوم جذور هذا التصور إلى أعمال فلاسفة مثل هوبس وجون لوك وروسو وكانط وغيرهم. وبالتالي يصبح الاحتجاج، كما هو معبر عنه في العديد من الخطابات رسمية كانت أو أكاديمية، في ميزان هذه القاعدة القانونية التي تحدد ضوابط الفعل العمومي في إطار نظام سياسي قائم على فصل لسلط مدنية هي: السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية.
غير أن الطابع المخاتل لهذه المقاربة ينبع من مصدرين: الأول هو أن القانون، نظريا وعمليا، نتاج لموازين القوة وليس إبداعا حرا لإرادة طيبة. فالعلاقات بين الناس داخل المؤسسات أو في المجتمع لا تخضع لمبادئ عقلية إلا من حيث هي مبادئ مشروطة بواقهم الطبقي ووعيهم الاجتماعي. أو قل إن تلك المبادئ العقلية تثوي وراءها مصالح سواء تم الوعي بها أم لا. من هنا تمثل العلاقات القانونية، كما بين ذلك التحليل الماركسي، جزءا من بنية فوقية أساسها عنوانها الصراع الطبقي. ولعل تجارب الشعوب تكشف على أن القانون قوة مادية تفقد أي طابع محايد أو مستقل. إنه نتاج لموازين قوى لا توحدها الإرادة الطيبة. أما المصدر الثاني لخداع المقاربة التعاقدية هو أن الأنظمة السياسية كحال النظام المخزني بالمغرب تعيش ازدواجية وتعمل جاهدة على إخفائها، تقوم على المزج بين الطابع المخزني للدولة (العميقة) والطابع الحداثي لديمقراطية (الواجهة). وهذا ما يبرر إطلاق البعض على هذا الطابع المزدوج اصطلاح “الديمكراتورية”démocrature. إن هذا المزج جعل النظام المخزني المغربي يتوسل السلاحين معا حسب الضرورة، فهو يقدم نفسه كنظام للمؤسسات الديمقراطية (دستور، انتخابات، برلمان، حكومة، قضاء متنوع …) للتسويق الخارجي من جهة والاستهلاك الداخلي من جهة أخرى، وأهم مظاهر هذا الاستهلاك هو رفض الاحتجاج وقمع أشكاله السلمية بمبرر التمرد على الشرعية légalité الدستورية والقانونية، لتكريس خطاب اللجوء إلى مؤسسات “منتخبة” ووسيطة ومؤسسات السلط التشريعية والتنفيذية المتعلقة بحقوق الناس (الحكومة) أو المتعلقة بالحق المدني ( القضاء). وهكذا يصبح أي فعل احتجاجي حقيقي مرفوض قانونيا لأنه يتعارض مع دولة الحق والقانون وفصل السلط. أما السلاح الثاني فهو الطابع المخزني، كطابع جوهري للدولة، حيث السلطة الفعلية للمؤسسات غير المنتخبة (المؤسسة الملكية والولاة والعمال والقياد…) التي تتحكم في مؤسسات (برلمان ورؤساء الجهات والجماعات …) فاقدة بدورها للمشروعية الشعبية بفعل العزوف الكبير للمغاربة عن التصويت في انتخابات تفرز مؤسسات شكلية لا طائل من ورائها سوى تبذير المال العام لتبقى دار لقمان على حالها أو تتراجع. الطابع المخزني للدولة يجعل التعليمات تحل محل إعمال القانون. وهذا ما يفسره خرق مؤسسات الدولة نفسها للقانون (الشطط في استعمال السلطة، التسلط، القمع، رفض السلطات تسليم وصولات الإيداع القانوني لعدد من التنظيمات السياسية والحقوقية والنقابية والجمعوية مع استيفاء كافة الشروط المنصوص عليها قانونا، عدم تنفيذ الأحكام القضائية، عدم إعمال القانون في محاسبة المسؤولين على الجرائم الاقتصادية والسياسية مع التنصيص دستوريا على مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة …). إن إحلال “التعليمات” محل إعمال القانون يعني مباشرة حالة الاستثناء. وهذا ما يجعل المتتبع يتساءل حول ما إذا كان المغرب يعيش حالة استثناء غير معلنة، حيث يتم قمع الحركات الاحتجاجية خارج إطار القانون الذي هو من وضع الدولة نفسها.
الخلاصة أن الخطاب السياسي الرسمي المغربي يستند إلى مفهوم الشرعية légalité كإعمال للقانون لرفض الاحتجاج باعتباره فعلا متجاوزا لدور المؤسسات، وإلى مفهوم المشروعية légitimité الدينية والتاريخية/التقليدية (ما يسميه فيبر بسلطة الأمس الأزلي) لقمع الاحتجاج بمبرر الفتنة وتهديد السلم الاجتماعي.
-
2- حالة الدولة كاستمرار لحالة الطبيعة
لقد فكر أغلب فلاسفة الحداثة، انسجاما مع تصورهم التعاقدي، في الدولة كنتاج لسيرورة تعاقد طويلة ومعقدة أخرجت الإنسانية مما سمي ب”حالة الطبيعة” كحالة في نظر هوبس Hobbes لحرب الكل ضد الكل انطلاقا من قاعدة أن الإنسان فاسد بطبعه (أناني يميل للهيمنة) أو بتعبيره ذئب للإنسان. وهذه الحالة عرفت حقا واحدا هو “الحق الطبيعي” والذي لم يكن سوى حرية مطلقة في القوة والعنف. لهذا كان لابد من وضع حد لهذه الحالة نظرا لما شكلته من تهديد على الإنسانية عن طريق ” قانون طبيعي” Jus naturalis من وضع العقل (دواء الطبيعة) أدى فيما بعد إلى تعاقد تخلى بموجبه الجميع عن حقهم المطلق بشكل إرادي لصالح سلطة عليا يترأسها حاكم مطلق يتولى تحقيق السلم. والغرض من هذا التذكير السريع جدا هو الوقوف عند فكرتي “حالة الطبيعة” و”حالة الدولة” هو الكشف على أن العلاقة بينهما لا تقوم على القطيعة وإنما على الاستمرار، لا يعني أننا نعيش حالة الطبيعة لأن للتاريخ منطقه، لكن حالة الدولة لم تلغ كل مقومات حالة الطبيعة وخاصة الغريزة والعنف والقوة.
فوجود القانون العادل لا يعني بالضرورة إعماله، كما هو الأمر في بعض القوانين التي فرضتها الشعوب وقواها المناضلة (مدونة الشغل مثلا على علاتها بالمغرب). أما إذا كان ظالما فيصبح القانون اسما آخر للقوة. أساس العلاقة بين الناس في حالة الطبيعة، عند هوبس مثلا، هي القوة، مادية كانت أو ذهنية (المكر). أما هذه العلاقة في حالة الدولة (المجتمع المدني) فهي القوة أيضا، سواء كانت اقتصادية أو سياسية (سلطة) أواجتماعية (نفوذ) أو اتخذت اسم القانون عنوانا لها. معنى ذلك أن حالة الطبيعة حالة صراع، وحالة المجتمع المدني بدورها حالة صراع أيضا، اختلفت الوسائل والشروط والمفاهيم لكن منطق الصراع هو الحاضر. ذلك أن حالة المجتمع المدني ليست كما يدعي البعض حالة لإعمال العقل وإنما حيز العقل فيها لا يشغل كما بين ذلك (ماركس وفرويد ونيتشه) وشرح فوكو سوى مجال ضيق جدا يكون فيه العقل مشروطا بالمصلحة والإيديولوجيا أو باللاوعي أو بالوهم وإرادة القوة.
-
3– في شرعية ومشروعية الاحتجاج[1]
عندما تفقد القوانين مشروعيتها العادلة القائمة على ضمان الحقوق والحريات الفردية والجماعية، إما بسن قوانين استبدادية ظالمة أو عدم تفعيلها، يصبح الاحتجاج نفسه مصدرا للمشروعية والحق أساس الشرعية، لذلك فالاحتجاج كأسلوب نضالي، لا يستهدف إلغاء القوانين بل تعبير عن عجزها عن ضمان العدالة نظريا أو عمليا أو هما معا. فهل الوضع بالمغرب يبرر هذا القول؟ الجواب نعم لعدة اعتبارات من بينها:
-
يمثل النظام المخزني، و”الملكية ” جوهره، العائق الأكبر أمام تحقيق الديمقراطية، فكل السلط التشريعية والتنفيذية والقضائية في يده. ولذلك فهو نظام استبدادي وأصل الفساد الإداري والسياسي والاقتصادي والأخلاقي …
-
فشل تجربة الرهان على الانتخابات والمؤسسات الصورية التي تؤثث لديمقراطية الواجهة، وأول وآخر تجربة “حكومة وطنية ” مع عبد الله إبراهيم تم وأدها من طرف الملك فلم تعمر إلا أقل من سنتين (1958 – 1960). وترأس الحسن الثاني عددا من الحكومات اللاحقة وأحكمت الملكية قبضتها على الحقل السياسي وأدخلت جزءا كبيرا من المعارضة الاتحادية في سيرورة التناوب المخزني.
-
كل مكسب شعبي أو تقدم ديمقراطي جاء نتيجة نضال ميداني وضغط جماهيري فرض على النظام المخزني تقديم التنازلات، وهو مستعد في كل لحظة للتراجع عنها في مراحل الجزر النضالي، ولنا في تجربة حركة 20 فبراير مثال حي ومعيش.