(غسان كومية)
تقديم:
تحل يوم 8 ماي/ أيار 2020 الذكرى الخامسة والسبعون ليوم النصر الأوروبي (VE Day) بعد سقوط برلين بيد الحلفاء وهزيمة النازية بأوروبا سنة 1945. سنحاول في هذا المقال استعادة بعض المحطات التاريخية التي ساهمت في تشكل خريطة العالم اليوم، والوقوف على الهمجية التي أنتجتها الحداثة الغربية، وتعامل القوى العظمى آنذاك، ودور الاتحاد السوفياتي في إنقاذ البشرية من أنياب النازية والتضحيات التي قدمها في سبيل ذلك؛ كما سنتطرق إلى الدور الإستراتيجي للجيش الأحمر في استسلام اليابان، بالإضافة إلى تسليط الضوء على الجذور الفكرية للمشروع الفاشي وأشكال استمراريته في عالمنا اليوم، مع صعود اليمين المتطرف وتطبيق السياسات النيولبرالية المتوحشة وأزمة الاقتصاد الرأسمالي العالمي المتفاقمة بسبب جائحة كورونا.
عيد النصر: بطولات وهمية وإخفاء للدعم الغربي للنازية
بثت وسائل الإعلام الغربية خلال الأيام الماضية العديد من البرامج الإخبارية بخصوص يوم النصر (VE Day) الذي يخلد عالميا في ذكرى هزيمة الرايخ الثالث وتوقيع معاهدة الاستسلام الألماني من طرف ألفرد جودل، رئيس هيئة أركان الحرب الألماني، وممثلي دول الحلفاء.
وقد خلد يوم النصر هذه السنة في العديد من الدول الغربية بأنشطة رسمية تتكرر كل سنة، من قبيل زيارة الرئيس الألماني فرانك شتاينماير للنصب التذكاري لضحايا النازية ببرلين، ووضع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إكليلا من الزهور على النصب التذكاري للحرب العالمية الثانية بواشنطن، وإيقاد رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون شمعة بكنيسة وستمنيستر مصحوبة بدقائق صمت، مع إذاعة مقتطفات من خطب ونستون تشرشل على البي بي سي وعدد من الوكالات الاخبارية ببريطانيا. وقد خلدت روسيا يوم النصر بوضع بوتن إكليلا من الزهور في الساحة الحمراء بالكرملين واستعراض للقوات الجوية الروسية.
إلا أن ما لا تذكره معظم هذه التقارير هو دور هذه الدول الغربية نفسها في انطلاق الحرب، والدعم السياسي والتكنولوجي الذي قدمته لهتلر، إذ قلما تشير إلى اتفاق ميونخ سنة 1938 الذي قدمت خلاله بريطانيا وفرنسا حليفتهما تشيكوسلوفاكيا لهتلر على طبق من ذهب قبل سنة من اندلاع الحرب؛ كما لا تجد فيها إشارة لما كشفت عنه الوثائق السرية التي نشرت بعد 70 سنة، والتي تشير إلى رفض فرنسا وبريطانيا عرض ستالين بإقامة تحالف ضد النازية بداية شهر غشت سنة 1939، أسابيع قبل هجوم هتلر على بولندا؛ وهو التحالف الذي كان قد يؤدي إلى فتح جبهتين على هتلر والقضاء على النازية في مهدها. عوض ذلك، رفض تشرشل وفرنسا العرض في صمت، ومكنا هتلر من فتح جبهة شرقي القارة ضد عدوهما المشترك “السرطان الشيوعي” الذي ترقبوا سقوطه بضعة أشهر بعد الغزو.
كما لا تجد في معظم البرامج الوثائقية أي إشارة إلى من تسبب في الهزيمة الساحقة للجيوش النازية وإنهاء الحرب، إذ قلما يذكر دور الجيش الأحمر الذي واجه ودحر لوحده أكثر من 200 فيلق عسكري نازي، بينما واجهت بريطانيا وأمريكا وباقي دولة الحلفاء مجتمعة أقل من 10 فيالق عسكرية على مدى تاريخ الحرب العالمية الثانية. وبالمقابل، نجد تمجيدا لبطولات بريطانية وأمريكية وهمية، في الوقت الذي يعمل الفيسبوك على حذف الصور التي توثق الانتصار، ومن ضمنها الصورة الشهيرة لجندي الجيش الأحمر الذي رفع راية الاتحاد السوفياتي على البوندستاغ معلنا الانتصار الأخير على النازية.
ورغم أن كل هذه التغطيات والأفلام الوثائقية تغص بصور تشرشل وروزفلت في المنتجعات السياحية، والتداريب الاستعراضية وبعض اللقطات التذكارية التي التقطت بعد المعارك، إلا أن نظرة سريعة على حصيلة كل دولة من خسائر الحرب تبين بالملموس من دفع ثمن الانتصار، ومن حرر العالم من براثن الرايخ الثالث. وعلى الجبهة الأخرى، في المحيط الهادي، توضح المعطيات المتعلقة بإعلان الاتحاد السوفياتي الحرب على اليابان كيف اضطرت هذه الأخيرة للاستسلام، رغم اتخاذ القادة الستة بطوكيو قرارهم باستمرار القتال بعد تدمير الجيش الأمريكي ل 26 مدينة يابانية، أغلبها بالأسلحة التقليدية التي قتلت من اليابانيين أضعاف ما فعلته القنبلتين الذريتين معا.
غزو الاتحاد السوفياتي: الأسباب السياسية والأهداف الاستراتيجية
شكل الاتحاد السوفياتي منذ سنة 1941 الهدف الرئيسي للغزو النازي لعدة أسباب سياسية وتاريخية وإيديولوجية؛ فبالإضافة إلى الكره الشديد الذي كان يكنه هتلر للشيوعيين بسبب دورهم في سقوط الملكية في ألمانيا وما اعتبرته النازية “إضعافا للأمة الألمانية” بعد الحرب العالمية الأولى، أولى أهمية قصوى لغزو جمهوريات السوفييت من أجل تشييد الوطن القومي للعرق الآري وتوفير موارد طاقية وفلاحية لبناء المشروع النازي الذي سيحكم العالم. ومنذ البداية، لم يكن هتلر يفكر في استعمار الاتحاد السوفياتي بالمفهوم التقليدي، بل اتخذ الغزو الألماني شكل تطهير عرقي وإبادة جماعية شاملة تهدف إلى تصفية كل أشكال الحضارة السلافية والقوقازية، واجتثاث الشعوب ذات “العرق غير النقي” من أجل توفير الموارد للحرب واستيطان الأرض لتفريخ العرق الآري ووتطوير المشروع النازي تحت قيادة الرايخ الثالث.
وكان ستالين يعي جيدا خطورة المشروع الفاشي على أوروبا والعالم كله عكس القادة الغربيين، وبادر منذ صعود هتلر إلى الدعوة إلى عقد تحالفات ضد النازية، لكنه لم يلق آذانا صاغية. إذ نادى في عصبة الأمم سنة 1934 إلى إقامة تحالف ضد الفاشية، لم تتحمس له الدول الغربية؛ كما حاول إقامة حلف ضد النازية توج بالاتفاقية الفرنسية السوفياتية سنة 1935، لكن بريطانيا عملت كل جهودها لإفشالها، ومضت أبعد من ذلك عندما بررت تنصل هتلر من بنود معاهدة فرساي العسكرية، وشروعه في بناء جيش الرايخ الثالث؛ إذ كانت البرجوازية الغربية تعتبر الاتحاد السوفياتي عدوا أشد من النازية، ولم تغفر للشيوعيين إسقاطهم القيصرية بروسيا ودورهم المناهض للاستعمار والإمبريالية عبر العالم. بينما كانت بريطانيا وفرنسا تعتبران هتلر منافسا سياسيا يمكنهما تدبير الخلاف معه في إطار صفقات رابح-رابح على غرار صفقة ميونخ 1938 التي مزقت تشيكوسلوفاكيا وتركت أنياب النازية تنهشها.
وقد سعى ستالين إلى إقامة تحالف مع فرنسا وبريطانيا ضد هتلر قبل انطلاق الحرب بأسابيع قليلة. فقد عرض يوم 15 غشت/ أغسطس 1939 إرسال مليون من قوات الجيش السوفياتي عبر بولندا لإيقاف أطماع الرايخ الثالث التوسعية إذا قبلت بولندا مرور القوات على أراضيها وقررت بريطانيا وفرنسا إرسال قواتها. إلا أن جميع هذه الدول رفضت العرض السوفياتي في صمت، وفوتت فرصة كانت قد تمكن من منع انطلاق الحرب ووقف الأطماع التوسعية النازية قبل استقوائها. وفي المقابل، كانت الدول الغربية تسعى إلى كسب ود هتلر وتأمل في أن يوجه أنظاره جهة الشرق، حيث توقعت انهيار السوفييت في أقل من ستة أشهر عند اندلاع الحرب.
بعد ذلك بأساابيع ، وفي ظل العزلة التي فرضت على الاتحاد السوفياتي بفعل اتفاق ميونخ، وبعد رفض فرنسا وبريطانيا وبولندا العرض السوفياتي، عقد ستالين اتفاق مولوتوف وريبنتروب مع هتلر الذي ينص على عدم الاعتداء المتبادل بين البلدين، والذي مكن ستالين من كسب بعض الوقت لبناء الجيش الأحمر وتقوية قدراته العسكرية استعدادا للمواجهة القادمة، وفي الوقت نفسه دفعت هتلر، الذي احتل بولندا في الأسبوع الموالي، للتوجه إلى الغرب واحتلال فرنسا ومعظم أرجاء غرب أوروبا.
وفي يوم الأحد 22 يونيو/جوان 1941، شرع الجيش الألماني في غزو الاتحاد السوفياتي في إطار ما سمي “عملية باربروسا” التي اعتبرت أكبر غزو عسكري في التاريخ، إذ زحف أكثر من ثلاثة ملايين جندي من ألمانيا ودول المحور في إطار حملة عسكرية شاملة توقع هتلر أن تنتهي في أقل من ثلاثة أشهر. وقد هدفت هذه الحملة إلى إبادة ما يقارب 80 مليون شخص من شعوب الاتحاد السوفياتي من أجل توفير الأرض لاستيطان العرق الألماني والبترول والغاز والفلاحة التي ستمكن هتلر من استكمال مشروعه النازي. ولذلك، تلقت القوات العسكرية أوامر بتسوية جميع المدن والقرى بالأرض وتحويل روسيا إلى قطعة أرض فلاحية. كما أمر هتلر قواته بألا تأخذها رحمة بالمدنيين ولا احترام لقانون الحرب، وأن تتم إبادة الأسرى والمدنيين عند إمساكهم.
نار الحرب النازية بوقود الرأسمالية الغربية
كانت البرجوازية الغربية ترى في هتلر حليفا اقتصاديا بديلا عن الاشتراكيين الديمقراطيين وبرامجههم الاجتماعية، وقوة سياسية قادرة على القضاء على الشيوعيين الألمان وما يشكلونه من تهديد للمشروع الرأسمالي. وقد وفرت العديد من الشركات المالية الأمريكية الدعم المصرفي والتحويلات المالية التي مكنت هتلر من بناء اقتصاده وجيشه. ومن أبرز هذه الشركات، نجد شركة براون براذرز هاريمان التي كانت يديرها برسكوت بوش، أحد أفراد الجيل الأول لعائلة الرئيس الأمريكي بوش، والتي كبار الكارتلات الصناعية الألمانية من تحويل أموال طائلة إلى ألمانيا من أجل تمويل النازية وتمكين الحزب الوطني القومي من كسب الانتخابات. كما وفرت لأبناك السويسرية قروضا مكنت هتلر من إعادة بناء اقتصاده، وتغطية نفقات برامج إعادة التسليح، كما لعبت الشركات الامريكية دورا كبيرا في دعمه قبل وأثناء الحرب.
وعلى المستوى الصناعي والحربي، شكلت حصة فروع شركة فورد وجنرال موتورز في ألمانيا حوالي 70 بالمائة من سوق السيارات بألمانيا عند بداية سنة 1939، ومباشرة بعد انطلاق الحرب، تحولت هذه الشركات إلى مصانع حربية عملاقة. وشرعت في انتاج الماكينات الحربية التي ستغطي حاجيات الرايخ الثالث العسكرية من السيارات والشاحنات العسكرية إلى الدبابات والطائرات الحربية. وبالاضافة إلى تزويده بالوقود والمطاط الضروري في المعارك، صنعت شركة جنرال موتورز الأمريكية لهتلر شاحنات Belitz والعربات والآليات الحربية التي مكنته من احتلال بولندا واجزاء من الاتحاد السوفياتي. وكان فرع شركة فورد الأمريكية بمدينة كولون يصنع العربات الحربية التي تنتجها اليد العاملة المجانية للمتعتقلين بمراكز الاحتجاز.
وجدير بالذكر أن هتلر وشح هنري فورد، مؤسس شركة فورد الأمريكية للسيارات، بوسام صليب الصقر الألماني، الذي كان انذاك أعلى وسام يناله أجنبي بألمانيا. كما تلقى المدير التنفيذي لشركة جنرال موتورز الوسام نفسه شهرا بعد ذلك اعترافا بجهوده في خدمة الرايخ الثالث. بالاضافة إلى ذلك، كان هتلر يضع صورة هنري فورد على حائط مكتبه بميونخ من فرط إعجابه وتقديره لخدمات الشريك الأمريكي.
وبالمقابل دافعت الشركات الأمريكية عن تورطها في الحرب النازية بذريعة “عدم التدخل في الشؤون السياسية للفوهلر”. ولم تحرك حكومة روزفلت ساكنا بفعل “الأرباح الكبرى التي كانت تحققها الشركات”. كما رفع هنري فورد الفيتو ضد مخطط للحكومة الأمريكية كان يقضي بالتصريح لشركة رولز رويس بصناعة المحركات اللازمة للطيران الحربي البريطاني. بينما تحولت معظم مصانع جنرال موتورز وفورد بألمانيا إلى مصانع لإنتاج الأسلحة والآليات العسكرية والطائرات الحربية مباشرة بعد اندلاع الحرب. وقد استعملت شركة أوبل، التي كانت تملكها جنرال موتورز الأمريكية، العديد من السجناء الفرنسييين والبلجيكيين كعمال لا يكلفون شيئا في معاملها من أجل تغطية الخصاص في إنتاج المحركات والعتاد العسكري.
وعلى مستوى التكنولوجيا الحديثة، وجد هتلر منذ صعوده إلى السلطة سنة 1933 في شركة أي بي ام الامريكية (IBM) أهم شريك على المستوى التكنولوجي، إذ مكنته من التقنيات اللازمة لإحصاء ورصد وتتبع وعزل الألمان من العرق غير الآري، وخصوصا اليهود. إذ استعملت الآلات التي صممتها أي بي أم لهتلر من أجل بناء قاعدة بيانات بخصوص كل اليهود الألمان وممتلكاتهم، وأسرهم، ما مكن من عزلهم في معسكرات الاعتقال النازية، وتسهيل إبادتهم وتصفية ممتلكاتهم. وكان طوماس واتسون، صاحب شركة أي بي أم، على علاقة وثيقة بالرئيس الأمريكي روزفلت.
خلال سبعة أشهر الأولى من الحرب قتل حوالي اثنين مليون أسير سوفياتي ولقي حوالي 60 في المائة من الأسرى السوفييت مصرعهم في المعتقلات النازية مقابل 4 في المائة من المعتقلين الفرنسيين والبريطانيين في الجبهة الاخرى. وفرت الشركات الأمريكية جزءا كبيرا من الأليات العسكرية، والعتاد والوقود والبترول الذي استعمله هتلر في الحرب.
المقاومة السوفيتية ودور الجيش الأحمر في إنهاء الحرب:
خاض الجيش الأحمر ملحمة بطولية أثناء المعارك العظمى التي ساهمت في وقف زحف الجيش الألماني، وقاد أشرس مقاومة ضده ولعب أهم دور في الهزيمة التي تلقاها هتلر ومشروعه على يد الحلفاء. وقد واجهت روسيا البلشفية 200 فيلق عسكري ألماني، في وقت واجهت القوى الأمريكية والبريطانية أقل من 10 فيالق عسكرية على طول الجبه الغربية والمستوطية التي لم يعطها هتلر أهمية إستراتيجية في حربه. وقد خسر هتلر 6 ملايين جندي في معركته مع الجيش الأحمر مقابل مليون جندي قتل على يد القوات البريطانية والأمريكية والفرنسية.
ومن بين الملاحم التي انتصر فيها الجيش الأحمر، معركة لينينغراد التي هزمت فيها الفيالق العسكرية الألمانية وجعلت صورة الجيش الألماني الذي لا يقهر تهتز أمام العالم. إذ صرح الرئيس الأمريكي روزفلت مباشرة بعد ذلك الانتصار أن الجيش السوفياتي يقتل عددا من الجنود الألمان يفوق ما تدمره 25 دولة متحدة على الجبهة الأخرى. وتعهد لستالين بالدخول إلى الحرب مع نهاية 1942 إلا أن تدخل ونستون تشرشل جعله يغير رأيه ويرسل كتائب من الجيش الأمريكي إلى الشرق الأوسط وجنوبي اسيا من أجل حماية المستعمرات ومصادر الطاقة.
كما تشكل ستالينغراد أكبر معركة في تاريخ الانسان وفيها تكبد الجيش الألماني خسارة تقدر بحوالي خمسمائة ألف جندي، أي ما يفوق ما فقدته بريطانيا وأمريكا مجتمعتين على طول الحرب. كما توالت الانتصارات السوفياتية بعد سحق جيش الرايخ الثالث في أكبر معركة للدبابات على مدى التاريخ بمدينة كورسك.
وتوالت انتصارات الجيش الاحمر التي أدت إلى تراجع القوات الألمانية، وتمكن السوفييت من تحرير المعتقلين من أحد أشد مراكز التطهير العرقي دموية “أوشفيتس بيركنو”. كما حرر الجيش الأحمر المدن البولندية وشن هجوما في اتجاه برلين تمكن من الانتصار فيه يوم 2 ماي 1945 بعد معركة تاريخية رفع فيها العلم السوفياتي على الرايخستاغ معلنا النصر الشامل وانتهاء الحرب، في الوقت الذي ظلت قوات الحلفاء على بعد 100 كلم من المدينة مخافة تكبد المزيد من الخسائر.
دور الجيش الأحمر في استسلام اليابان:
يسود اعتقاد خاطئ لدى العديد من الناس بأن سبب استسلام اليابان في الحرب العالمية الثانية هو إلقاء القنبلة الذرية على مدينتي هيروشيما وناكازاكي. ويعتمد هذا الاعتقاد على دعاية إعلامية في الحرب الباردة تقزم كل مراحل الحرب مع اليابان إلى قصة قصيرة تتركز حول إطلاق القنبلة الذرية على هيروشيما يوم 6 يونيو 19… وبعد ثلاثة أيام أطلقت قنبلة ثانية على ناكازاكي، وفي اليوم الموالي استسلمت اليابان. وعلى العكس من ذلك، يعلم المتتبعون لتاريخ الحرب أن القصة لم تكن كذلك، وأن “قصة القنبلة” لم تكن إلا خرافة في الواقع، وأن “السلاح السيكولوجي” الذي هزم اليابان لم يكن إلا دعاية إعلامية أمريكية.
يعتبر يوم 9 يونيو..التاريخ الحاسم في الحرب مع اليابان لأن خلاله أعلن القادة الستة في المجلس الأعلى الياباني قرار الاستسلام. ولا يرتبط هذا القرار بإطلاق القنبلة الذرية على ناكازاكي ظهر اليوم نفسه، أي بعد انعقاد اجتماع المجلس، ولا في إطلاق القنبلة الذرية الأولى على هيروشيما قبل ذلك القرار بـ 72 ساعة؛ علما أن التقرير العسكري الرسمي بخصوص الخسائر في هذه المدينة وصل إلى المجلس الأعلى بعد قرار الاستسلام بيوم واحد. بالإضافة إلى ذلك، هاجم سلاح الجو الأمريكي 68 مدينة يابانية منذ صيف 1945.. دمر أغلب هذه المدن بشكل جزئي أو كامل، وقتل ثلاثمائة ألف شخص وجرح أكثر من سبعمائة وخمسين ألف، وشرد حوالي مليون وسبعمائة ألف. وعلى سبيل المقارنة بين آثار الدمار الذي شهدته هذه المدن، تأتي هيروشيما في المرتبة الثانية من حيث عدد القتلى بعد طوكيو، وفي المرتبة الرابعة من حيث عدد الأمتار المكعبة التي دمرت، وفي المرتبة السابعة عشرة من حيث نسبة دمار المدينة.
وقد استعملت الأسلحة التقليدية في ستة وستين غارة وكانت الطائرات العسكرية في كل مرة تلقي مابين أربعة وخمسة ألاف طن من القنابل. وقد شنت أول غارة من هذا النوع على مدينة طوكيو يوم 9 مارس 1945، وقتل خلالها 120 ألف ياباني، في الوقت الذي أحرقت المدينة كلها وسويت بالتراب. بالاضافة إلى أن اليابان صمدت أمام سلاح الجو الأمريكي الذي دمر بالكامل 26 مدينة طوال خمسة أشهر من القصف، لم تتمكن خلالها القوات البرية الامريكية من تحقيق تقدم يذكر على الارض رغم الدمار الهائل الذي خلفه الطيران الامريكي. بل على العكس من ذلك، كان التقدم البري بطيئا، ولم يتعدي العديد من الجزر اليابانية التي اجتاحها الجيش الامريكي بعد تكبده خسائر كبيرة. ولم تكن الاخبار الواردة عن دمار ربع مدينة هيروشيما بالسلاح النووي لتغير شيئا من تقديرات القادة الستة بخصوص الحرب.
روزفلت والحاجة إلى الجيش الأحمر لحسم المعركة مع اليابان:
منذ الانتصارات الأولى التي حققها الجيش الأحمر على النازية، حاول روزفلت إقناع الاتحاد السوفياتي بفتح جبهة حرب مع اليابان من أجل تخفيف الضغط على الجبهة الشرقية، وضمان تقدم للقوات البرية الأمريكية التي ظلت عاجزة عن التقدم البري وتخسر الكثير رغم الانتصارات الجزئية التي حققها الطيران الحربي. وقد قدم روزفلت لستالين العديد من الوعود من قبيل ضم جزر كارافتو وكوريل التي احتلتها اليابان، والاعتراف باستقلال منشوريا والحقوق السياسية والاقتصادية للسوفييت فيها، وفي المقابل تعهد ستالين بفتح الحرب ضد اليابان في غضون ثلاثة أشهر من استسلام ألمانيا. وجدد ستالين عهده إثر اتفاق مالطا، ثم انضم إلى منظمة الأمم المتحدة بعدما تمكن من الحصول على حق النقض الفيتو.
وقد حاولت اليابان تحييد الاتحاد السوفياتي خلال الحرب العالمية الثانية. وبعد الهزيمة التي تلقتها اليابان في المحيط الهادي، تبين لجزء من القيادة السياسية اليابانية أن فتح ثلاث جبهات مع كل من الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا والصين هو حرب لا تستطيع اليابان تحمل تكاليفها على المدى البعيد. وكان القادة اليابانيون يعلمون أن استمرار الحرب مكلف على المدى الإستراتيجي، وأن هزيمة ألمانيا أمام الجيش الأحمر ستفسح المجال للغزو السوفياتي لليابان طبقا لاتفاق مالطا. وقد سعى الإمبراطور الياباني جاهدا لتمديد اتفاق الصلح الذي عقده مع السوفييت. كما تظهر العديد من الوثائق التاريخية التي رفع عنها طابع السرية أن اليابان حاولت إنهاء الحرب عن طريق وساطة سوفيتية أشهرا قبل إلقاء القنبلة الذرية.
وفي يوم 9 غشت 1945، أعلن ستالين الحرب على اليابان وزحف مليون ونصف من قوات الجيش الأحمر باتجاه منشوريا التي كانت تحت الاستعمار الياباني. وتمكن الجيش الأحمر بعد أسبوعين فقط من القضاء على الجيش الياباني الذي يبلغ تعداده مليون جندي، وتحرير منشوريا والجزيرة الكورية والوصول إلى ضواحي أكبر الجزر اليابانية، وهو ما لم تستطع عمله القوات البرية الأمريكية طوال سنوات الحرب. وقد عجل تدخل السوفياتي من استسلام اليابان، كما أثر بشكل مباشر على الحرب الكورية في السنوات اللاحقة، ومكن من توفير الدعم الإستراتيجي للثورة الصينية التي سينتصر فيها جيش ماو سنة 1949.
وكان الإمبراطور الياباني يعلم أن الاستسلام وعقد اتفاقية مع أمريكا أفضل له من الانهزام أمام الجيش الأحمر الذي قد يهدد وجود الإمبراطورية كلها. وقد وجه كنتارو سوزوكي، رئيس الوزراء الياباني، نداء إلى حكومته للاستسلام للقوات الأمريكية التي يمكن أن يبرموا معها اتفاقا يجنبهم المحاكمات العسكرية بتهمة جرائم الحرب، ويحمي النظام الإمبراطوري، وإلا سقطوا تحت رحمة الغزو السوفياتي الذي قد يغير الخريطة السياسية للمنطقة كلها.
من جهة أخرى، فرغم أن اليابان كانت تعلم بالقنبلة الذرية كسلاح عسكري، ووضعت برنامجا نوويا لصنعها أثناء الحرب، إلا أن نشر دعاية أن اليابان هزمت بسبب قنبلة سحرية قد مكن الإمبراطور من إيجاد مبرر لاستسلامه، والحفاظ على الحكم الملكي باليابان في ظل الاحتلال العسكري الأمريكي. وبالمقابل، استثمرت أمريكا هذه الدعاية أثناء الحرب الباردة لتقوية وجودها الإستراتيجي بآسيا، وإقناع جزء من العالم بالتفوق الأمريكي ودعم البطولات الأمريكية الخارقة التي كانت تبثها هوليود، والتي ستنكسر على يد الثوار في فيتنام وكوريا الشمالية سنوات قليلة بعد ذلك.
التفوق الأري وصعود اليمين المتطرف اليوم: مشروع الحداثة الغربية يتحقق بالكامل
تنطلق النازية من تصور قديم يقوم على إقامة تراتبية عرقية بين الناس، ويضع العرق الأري في أعلى الهرم كأرقى شكل من أشكال التطور الإنساني. ولم يكن هذا التصور، التفوق الأري، ينحصر في المانيا النازية أو في ايطاليا الفاشية، بل كان منتشرا في أغلب أرجاء أوروبا، وشكل منطلقا فكريا للغزو الاستعماري الذي أباد في أمريكا وحدها أكثر من 140 مليون من السكان الأصلين في أقل من قرن من الزمن خلال القرن السابع عشر. وقد تقوى التصور الأري مع نجاح الثورات الفكرية والسياسية التي أسقطت الأنظمة الفيودالية بأوروبا وجاءت بالبرجوازية إلى السلطة في العديد من البلدان. وشكل خطاب الحداثة الهيكل الذي نشأ عليه هذا التصور الأري وتطور إلى أن وصل أكثر مراحله الفكرية والايديولوجية تطورا: النازية والفاشية. إذ يقوم خطاب الحداثة على كونية الفعل الإنساني وسموالعقل كأرقى أشكال الوعي في الوجود. وعلى أساسه تقوم مفاهيم أخرى كالحرية، والعقلانية، والفرد… إلا أن ما يخفيه هذا الخطاب هو بالضبط ما استبطنه الخطاب الفلسفي اليوناني منذ العهد الهيليني. فقد كان أفلاطون، أحد أعمدة الفكر الانساني اليوناني، ينظر إلى الديمقراطية في أثينا كحق يمارس فقط من طرف الأرستقراطية، واستثنى منه الطبقات الاجتماعية الأخرى من نساء وأطفال، يصلحون للعمل المنزلي والجنسي، والعبيد الذين يشكلون قوى انتاجية ولا يرتقون لدرجة الإنسان بمفهومه الهيليني. على غرار ذلك، تنحصر الحداثة الأوروبية بجميع قيمها الحضارية في مفهوم الإنسان الأوروبي الذي يشكل مركز العالم. وتستحضر التفوق اليوناني والروماني من أجل اثبات الشرعية التاريخية لهذا الخطاب، كما تعطيه أسسا علمية مرتبطة بالتطور العلمي والفكري خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وبعدا سياسيا يتجلى في ضرورة غزو الانسان الأري باقي مناطق العالم المظلمة من أجل نشر التنوير والحداثة. وقد حكم هذا التصور موقف القوى الرأسمالية باوروبا كلها، واستخدم كمبرر للاستعمار الذي اسعبد ملايين البشر في أفريقيا وأسيا وأمريكا، وارتكب مجاز تقدر بالملايين دفاع عن حداثة شكلت مصالح البرجوازية الأوروبية نقطة البدء والنهاية فيها.
وقد وحد التصور الأري البرجوازية الغربية رغم صراعها على الثروات ومراكز القوى. ولا غرابة أن يكون رئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرشل، احد أبرز المدافعين عن هذا التصور العنصري. فقد كان يردد أن “النصر حليف السهم الأري”، ودعى إلى استعمال الغازات السامة ضد “القبائل الغير متحضرة” التي ثارت ضد الاستعمار البريطاني بأسيا وفي معسكرات الاعتقال بجنوب أفريقيا والتي شهدت جرائم ابادة قلما تحدث عنها الاعلام الغربي. وفي نفس الوقت لطالما صرح تشرشل، الذي يعتبر رمزا للانسانية لدى العديد من الحداثيين وحتى من اليسار الاجتماعي ببلداننا، بأنه يكره شعوب الهند، ووصفهم بأنهم وحوش ذوو أديان وحشية. وتسبب بفعل سياساته العرقية في مقتل أكثر من ثلاثة ملايين هندي في البنغال لوحدها اثر مجاعة سنة 1943، ووصفهم أنهم يأكلون مثل الأرانب. واعتبر الفلسطينيين “جحافل متوحشة تقتات على روث الإبل”، وقد كان يكتب الكثير من الأشعار عن الديمقراطية والحرية، لكنه لم يكن أبدا يقصد شعوب افريقيا واسيا التي كانت دماؤها وثرواتها تستنزف بفعل الاستعمار البريطاني.
لقد اقتصرت الحداثة الغربية في مفهوم الانسان الأوروبي ذي العرق الأري. ولا ينحصر تعبيرها سياسيا في النازية الالمانية والفاشية الايطالية فقط، بل تنطلق من مركزية أرية عبرت عنها البرجوازية الأوروبية بفرنسا وبريطانيا واسبانيا في الابادة الجماعية التي شنتها قواتها في مختلف بقاع العالم، وما زالت تشهد تعبيراتها انبعاثا اليوم مع صعود اليمين المتطرف، الذي ينظر إلى العرق الغير أري كسبب في أزمة النظام الرأسمالي، وتهديد للمشروع الحداثي الأوروبي، وجب استئصاله.
حتى لا نختم
سقط في الاتحاد السوفياتي 26 مليون قتيل على يد الجيش الألماني. كما دمرت القوات النازية أثناء اجتياحها الدموي للاتحاد السوفياتي أكثر من 200 مدينة وتسعة آلاف قرية. وتبلغ خسائر الاتحاد السوفياتي ما يقدر بـ95 في المائة من الخسائر التي تكبدتها قوى الحلفاء مجتمعة أثناء الحرب، في وقت لم تتعد خسائر أمريكا وبريطانيا نصف مليون جندي. إذ مقابل كل جندي أمريكي قتل في الحرب ضد ألمانيا قدم الاتحاد السوفياتي 80 جنديا. وفي الوقت نفسه خسر الألمان ثلاثة أرباع قواتهم في مواجهة الجيش الأحمر الذي ألحق بهم أعظم خسارة؛ اذ من بين 13 مليون ونصف جندي إلماني الذين قتلوا او أسروا أو جرحوا أثناء الحرب سقط 10 ملايين جندي على يد الجيش الأحمر.
في المقابل عملت الدعاية الغربية على طمس لحظات مفصلية من تاريخي البشرية، وأخفت معها تضحيات كبيرة قدمها الاتحاد السوفياتي في سبيل القضاء على النازية. إذ يعتبر انزال النورماندي مجرد نزهة استعراضية مقارنة مع ما قدمه الجيش الأحمر من تضحيات ومكاسب للعالم. وقد تطرقنا لدور ستالين في هذا المقال كرمز للقيادة السوفياتية تلك الفترة وليس كشخص أو مسؤول سياسي منعزل.
ونعتبر أنه ورغم مآل التجربة السوفياتية اليوم، والحرب التي تشن على ستالين من قبيل البرجوازية الغربية وكذلك جزء من اليسار الديمقراطي وبعض المجموعات الجذرية، يظل تقييم التجربة السوفياتية مسألة ملحة من اجل استخلاص الدروس من أول تجربة بناء الاشتراكية في العالم الحديث. كما تبقى الشعوب إلى حدود اليوم مفتقدة الدور الذي لعبه الاتحاد السوفياتي، وبحاجة ملحة إلى بناء مشاريع سياسية وإعلامية وفكرية تكنس تضليل الآلة الدعائية البرجوازية وتمكن من بناء مشروع إنساني حقيقي يرفض التفوق العرق، ويؤسس على كونية الإنسان العامل، صانع الحضارة.