الصفحة الرئيسية • قضايا الفن و الثقافة عبد الرحمان صديقي يكتب عن الهوية في حلقات (الجزء2)

عبد الرحمان صديقي يكتب عن الهوية في حلقات (الجزء2)

كتبه chabiba

الحلقة رقم : 11 

    كانت للواقعة تأثير كبير على بنبلي، قلبت مساره الحياتي رأسا على عقب.. رفعت كل الستائر، وأزاحت عن عيونه كل الغشاوة.. بدت له الدنيا في شكلها الجديد، وشرع في تحطيم الأيقونات البالية، من قبيل صفاء العرق، باعتبارها خدعة أنطولوجية.. والعامي أقل قيمة من الانسان الشريف، هو تمييز عنصري والغرض منه استغلال الانسان لأخيه الانسان واستعباده.. وكذلك التمييز بين الجنسين.. وبعض الأحاديث القائلة: لا تثقوا في النساء ولو عاشرتموهم أربعين عاما، وكلهم أشقاء الشيطان وولدن من ضلع أعوج.. كل هاته الأيقونات تأقلمت مع محيط الزوايا بتزكية من الاستعمار. وبالمقامل تبشر الزوايا بتأكيدها على أن الخير كل الخير مع النصارى، فشعار الزاوية الدرقاوية هو: نصراني لكل دار أحسن من ريفي واحد لكل دوار. كان هذا الشعار بمثابة نصيحة جدهم مولاي العربي الدرقاوي، والذي نشر في جميع أنحاء منطقة قبيلة بوبعان. فالزاوية الحمومية ببني ملول كان لبعض أفرادها ضيعات بمنطقة أولاد جامع وحوز مولاي يعقوب. أما الزاوية الصافية بقيادة مولاي بوشتى الخمار كانت لها بركة تخصيب النساء على شكل تقديم القرابين في النهار والتهافت على معاشرة النساء العاقرات في الليل.
    لم يخطر ببالهم صفاء العرق مثل بنبلي، بقدر ما كان همهم الوحيد هو ملئ الدنيا بأولاد الحرام والتباهي بهم، فقط لأن قدسية مولاي بوشتى الخمار نسخت خطبة الوداع.. لم يبقى عرف الولد للفراش، وللعاهرة الحجر … وعاشت بلاد المخزن لسنين طويلة على هذا الحال..العمل مع النصارى في طرد السكان وتجميع الأراضي السهلة، لتصبح فيما بعد ضيعات.. لهذا الغرض أو لأغراض أخرى، كان لابد من ترسيم السياسة الادارية للاستعمار.. شرعوا في تعيين القياد من شيوخ القبائل، أصحاب العمائم الكبيرة والعقول الصغيرة.. دفعهم تعطشهم للسلطة لخدمة أسيادهم، ناسين بذلك (لن ترضى عنك اليهود والنصارى حتى تتبع ملتهم).

    في هذا الجو الزئبقي وهاته المفارقات، من حيث التقوقع في الطوطم واللعب بالمقدس، بدأت تتناسل الأسئلة الحارقة والمعقدة من قبيل – أي شرف هذا الذي يدعونه أجيال من الزناة؟، وأي بركة وأي خير هذا الذي سيأتي على يد هؤلاء؟ 

الحلقة رقم : 12

   بدا للمستعمر أنه أحكم قبضته على بعض القبائل.. شرع في إطلاق مسلسل النهب.. نهج خطته الجهنمية المعروفة بالترتيب.. قام بإحداث مناصب وظيفية مثل الجاري والمقدم وبعض الكلاب البشرية الذين وضعوا أنفسهم في خدمة المستعمر.. كانوا يقومون بإزعاج السكان بدورياتهم المشؤومة.. يحصون القطعان حين خروجهم من الحضيرة حتى موقع المراعي.. وينتقلون إلى مداشر أخرى في المساء لاحصاء القطعان وهي عائدة.. ويملؤون المحضر بعدد الماشية وأنواعها، وكذلك الغلة من أشجار التين والزيتون وكروم العنب، حتى أنوع الحبوب من قمح وشعير وذرة، من داخل الخيام. كل هذا يكون بصحبة وتحت إشراف (لاليجون)، -المرتزقة العساكر السود-، المنحدرين غالبيتهم من السينغال.. هكذا أصبحت الساكنة مجرد سراح وخماسة ورباعة في نظر المستعمر.. ليس لهم حق التصرف في خيراتهم.
    قام المستعمر بإنشاء بنايات سماها مصلحة الجبايات وجمع الترتيب، لهذا السبب وظف المستعمر مفهوم المخزن المشتق لغويا من الخزين، أي المكان الذي كان يتم فيه جمع المحاصيل. هذا كله يتم تحت إشراف لجان من عساكر ومدنيين معتمدين على خبرة ومعرفة العملاء.. اشتد الخناق على السكان.. شرعوا في الهربة من الأراضي السهلة نحو القمم الجبلية بجوار الغابات والمناطق الوعرة، فارين بجلودهم.. كان واقعا لا تخطئه العين.. ما أن تصطحب معك ضيفا أو صديقا نحو قبيلة بني زروال، إلا وبادرك بالسؤال: لماذا ترك الناس الأراضي المنبسطة وفظلوا قمم الجبال؟.
    كان لترك السكان لمواطنهم عواقب وخيمة كغلق الأسواق الصغيرة والقريبة التي كانت توفر لهم حاجياتهم المتواضعة.. بدت العزلة قاتلة وضيق العيش باديا على السكان رغم شساعة خريطة القبيلة التي تتوفعر على أكبر وأجود الأراضي ذات الطبيعة الخلابة والتربة الخصبة والمنظر الجميل.. لا أقول هذا من باب السياحة كما يفعلون أشباه الكتاب الذين ارتبطت حياتهم المعيشية بالمخزن، بل من باب الحسرة والألم تضامنا مع المضطهدين.

    في ظل هذا الجو المشحون والظلم الذي لا يطاق، كان لابد من الاجابة عنه انطلاقا من قراءة اللطيف في الجوامع.. بدأت التعزيزات النفسية تعطى على لسان الفقهاء المجاهدين.. كانت هذه المبادرة في الضفة الغربية لبني زروال، نظرا لكون (الواد الكبير) يتوسطها.. كان التنسيق بين الضفتمين يتم عن طريق توصيلية الرقاص (الشخص الذي كان ينقل الرسائل من تنسيقية إلى تنسيقية).. كان أول إعلان عن انطلاقة المقاومة في السوق الأسبوعي الذي يتوسط القبيلة، بلسان المقاوم مولاي الشاهد، معلنا عن أن – الصنك حرام ومن يعطيه فهو ابن الحرام – .. كانت هذه أول شرارة لاندلاع لهب المقاومة في منطقة بني زروال.

الحلقة رقم : 13

    بعد الانطلاقة الفعلية للمقاومة الحقيقية في السوق الأسبوعي لقبيلة بني زروال، واختيار الموقع هذا كان يهدف بالأساس إلى إشراك أكبر عدد من السكان بما فيهم القبائل المجاورة، مثل قبيلة بني ورياغل، وقبيلة أسلاس وقبيلة الجاية وقبيلة فشتالة، كل هذه القبائل تعادل نصف قبيلة بني زروال.
انتشر خبر هذا الحدث في كافة أطراف المعمور، وأصبح حديث الساعة، تردده كل الألسن.. بدأ الناس يتطلعون لرؤية المجاهدين وسماع خطبهم، وهم يؤطرون المنخرطين وكل من التحق بصف الجهاد.. انطلقت عملية هيكلة التنظيم وتوزيع الأدوار، وإشراك المرأة حيث لم يعد دورها مقتصرا على أشغال البيت فقط، بل انخرطة بكامل قواها في المعركة الكبيرة، التي كان الجميع يتجند لها، وكل من تخاذل أو تخلف يعاقب عقابا شديدا، وذلك عبر مراحل: في المرة الأولى يوجه له إنظار بالمقاطعة أي أنه لا يشارك في الأفراح والأحزان. هذه المدة الاختبارية تكون محدودة ومعروفة لدى الجميع. فالمنبوذ له خيارين لا ثالث لهما، إما أن يقدم الذبيحة ويطلب السماحة أو ستكون مدة الاختبار قد انتهت، وفي أول جمعة بعد الصلاة سيشرعون في قرع الطبل ليحضر كل فرد حتى لو لم يكن قد صلى مع الجماعة، ويصدر الحكم في حق كل متخاذل، ويحرم من شرف المقاومة ومن عزة الانتساب إلى الجماعة.. عليه أن يغادر فور صدور الحكم، لأن الناس كانوا يعيشون ديمقراطية القبيلة، أي اللحمة التي تعني لا فرق بين هذا وذاك حيث الروح الوحدوية وقدسية الجماعة. التي كانت كلما قضيت الصلاة يتفقدون أحوال العامة حسب جدول أعمالهم الآتي:
فمن يزداد له مولود ويكون في حالة عوز يوفرون له أضحية العقيقة حتى تتيسر أحواله. ومن هم في حالة خصام أو نزاع، يؤخذ للمظلوم حقه ممن ظلمه، ولا يغادر كل منهما الجامع حتى يقبل كل واحد منهم رأس الآخر
   أما من لم يستطع الباءة وهو راشد، ستكون الجماعة هي ولية الأمر والنهي.
   و قبل موسم الزيتون تقوم الجماعة بتعيين (الرباط) لحراسة الغلة، و (المقاطع) لرعي قطيعهم، و (الطبال) لقرع الطبل في رمضان والأعياد وكلما دعت الضرورة.

     هذه البنية القوية والمتماسكة، كانت تقض مضجع المستعمر ومعه الخونة.. أدرك المستعمر أن القبائل المحصنة بدموقراطيتها يتعذر اختراقها.. بدأ بلعبته السياسية القذرة.. قام بإغداق الهدايا والامتيازات عل ضعاف الايمان، من الشيوخ الذين كانوا يحضون بالوقار والهيبة الدينية.. أصبحوا أبناء الزانية في خدمة الاستعمار بتحويلهم المؤسسة الدينية من الجامع إلى المسجد. وبدل عبادة الله الواحد الأحد، بدأت عبادة الحكام من العملاء والخونة

الحلقة رقم : 14

    من طبيعة المستعمر، نجده يتقنع خلف القياد المحليين، حتى لا يواجه المقاومة والحرب الشعبية وهو مكشوف الوجه وحقيقة أطماعه بادية.. شرع في شق الطرقات المعبدة والرابطة بين مدينة فاس وغفساي التي لا يتعدى طولها 100 كلم.. كانت مدة إنجازها ستة أشهر.. كافية لتوصيل السيارات والشاحنات العسكرية والمدنية.. وقع اختيار المستعمر على غفساي.. أقام الثكنات العسكرية على قمة الجبال، و(البيرو) مركز القيادة والحكم الفرنسي وكذلك المترجم. وإلى جانبه أقام المحكمة
    هكذا تم الاستغناء على القياد العملاء، لم تعد الحاجة إليهم ضرورية.. ظن المستعمر أن قبضته باتت شبه محكمة.. أصبحت الساكنة إذا ما أرادت أن تذهب باتجاه الغابة، يلزمها تسريح من الادارة الفرنسية.. ممنوع الصيد وجلب الحطب، ثم الرعي وتزيد قائمة الممنوعات. بهذا الاجراء الظالم أدرك السكان أن المستعمر ليس فاعل خير، وأيقنو أن بناء مستوصف هنا، ومدرسة هناك، بل وحتى تنقل الناس بالمجان من فاس إلى غفساي في حافلة الغزاوي، ليس فعلا لوجه الله بقدر ما هو ضرب لهوية القبيلة.. ضاق بهم المجال، وباتوا لا يملكون سوى هويتهم. عندها تفجر مخزونهم الثقافي.. نضموا الأناشيد الحماسية مثل: (بلادي يا بلادي الحبيبة وبوغابة قطعنا لكسيبة) و (هذا قبطان دومة خاصو اللفت دالمعلومة – اسم دوار -).
بدأوا في تمجيد الأولياء والصالحين.. وقع الفرز، هذا وطني، وهذا خائن.. في هذا السياق تبلور شعار المقاومة الخالد : (قطع الأعناق أهون من قطع الأرزاق).

    فقد المستعمر ما تبقى له من صواب.. أمر باعتقال كل من يقف وراء هاته الفوضى حسب رأيه، وكان مولاي الشاهد على رأس القائمة، مطلوب إحضاره ويداه موثقة خلف ظهره، والحديد في عنقه.. انطلقت القوة تحت جناح الظلام من غفساي باتجاه دوار القليعة.. في الصباح الباكر كان البيت مطوقا بالشكامة والغوم والمخازنية ممتطين الأحصنة، مرتدين برنوص أسود وعمامة صفراء مثبتة بإحكام وشكلها مثلث، ونعالهم لها أقفال نحاسية.. بدأت الخيول بالصهيل من كثرة الوقوف ، سارع الجاري إلى طرق الباب بعنف صارخا: أين هو مولاي الشاهد؟ قولوا له أن يحضر.. استيقضت العائلة على هذا الكرنفال الرهيب.. شرع الأطفال بالبكاء.. تفطنت لالة زهرة زوجة مولاي الشاهد المخلصة، وبادرت بإخفاء المنشورات والجرائد.. وضعت البعض منها في (الفرنة) والقديمة منها، مطوحة بها من الباب الخلفي نحو الفدان.. حاول مولاي الشاهد تمويه القوة مرتديا الحائك وهو محاط بأفراد العائلة. لكن دون جدوى، ما دام البيت مطوق بإحكام.. صرخ الشهم البطل في وجه الكلاب.. أخذ الوقت الكافي لترتيب أغراضه.. وقف كالأسد ونادى على أشقائه: أنت يا محمد (الأخ الأكبر)، وأنت يا عبد الله (الأخ الأصغر). ردوا بالكم عل الدار وسنلتقي قريبا إنشاء الله، كونوا رجال
    خرج مولاي الشاهد.. وقف العملاق وهو في قمة الثبات، وثقة في النفس.. حيا بعض الجيران (نساء وأطفال) حفاة وشبه عراة.. رؤوسهم تحت أجنحة أمهاتهم. خرجوا ليتأملوا الحدث. كأنهم يتلقون درسا من دروس الوطنية.. حياهم البطل قائلا لا تخافوا، ثم التفت نحو الجحافل وقال: أنا لست ممن يوضع القيد في يده، ولا أقبل بالانقياد خلف الخيول.. أنا أتقدمكم وأنتم خلفي وليس في هذا إحراج لكم مع كلابكم (يقصد رؤساءهم).
قال العساكر: هل نحن كلاب؟
مولاي الشاهد: لا، أنتم أداة للتنفيذ فقط.. أيقن العساكر أنه من كبار المقاومين.. فعلا هو من بين القادة الثلاث في المنطقة، سليمان الحداد في المنطقة الشرقية، ومحمد ولد علي المعروف بالمكناسي، من دوار المشاع، ومولاي الشاهد العلوي من دوار القليعة.
كان للمقاومة عمقها الشعبي.. للحقيقة وللتاريخ كان اعتقال القادة له تأثير سلبي على سير المقاومة وأدائها.. لم يكن الوضع حكرا على بني زروال فقط، بقدر ما كان حالة عامة في الوطن.. كانت هذه مرحلة التأطير واستنهاظ روح الأمة.. فعلا توحدت القبيلة بأفخاضها الخمس.. لم يعد يفرقهم (واد أولاي)، وأصبح جيش التحرير يمثل الذراع القوي للقبيلة في مواجهة المستعمر، وأعلى شكل من أشكال المقاومة. فالمعركة الأولى كانت في دوار اللبابنة، لأن المستعمر والعميل ولد علي بن حميدو (قائد ومقيم بدوار النقلة) كان يعتقد بأن بناء مركز القيادة في دوار اللبابنة سيكون ناجحا وبالسهولة التي بني بها في غفساي، لكن دراستهم الأنتربولوجية عن القبيلة كانت جد سطحية غير مدركين رد فعل التربية والتراكمات الضاربة في عمق التاريخ
    أما غفساي فهو مجتمع بني تحت الطلب.. عبارة عن مجموعات سكنية هجينة قوامها الكل يصارع الكل، والفرد يوشي بالفرد.. ما أن تسقط القبيلة في قبضة المستعمر إلا وتجرى عليها عملية قيصرية للتعديل في جيناتها لتصبح أداة طيعة في يد المخزن.. بدأت الأساليب المدمرة بالدوس على أخلاق الناس وقيمهم النبيلة، مسخرين إحدى السيدات تسمى الشريطية، بغية المتاجرة في نساء الأعيان وخدام المخزن.. أصبح الزناة يتقاطرون عليها من كل حدب وصوب.. تقيم لهم الليالي الحمراء. كانت كلما ثملت يتورد وجهها، بشرتها بيضاء وشعرها أسود غامق، طويلة القامة وممتلئة الصدر.. تقف وسط الجموع وتسحب الوشاح من فوق رأسها رافعة يدها المثقلة بأساور من ذهب مخاطبة الزناة قائلة: من أراد زوجة المدير الفلاني والشيخ الفلاني والموظف الفلاني، وزوجة العادل الفلاني، وحتى زوجة من يرتدي البرنوص الأبيض ويعتلي المنبر يوم الجمعة.

   بدأ الزناة ينظرون بعضهم لبعض، قال أحدهم: أنا أثق في خطط القوادات، وكلام الشريطية على حق، فلا وجود لفرج نقي ولا لرجل تقي.

الحلقة رقم : 16

    أصبح أمر الشريطية واقع وساري المفعول، ولم يجد أصحاب العمامات الكبيرة وكل من له عقدة امرئ القيس من منقذ أو مخلص غير التعلق بذيول المخزن، يقضون وقتا طويلا في الثرثرة، وينتقلون من حائط إلى حائط ويمتصون بمؤخراتهم برودة الاسمنت.. يراقبون ركاب حافلة الغزاوي فردا فردا في الذهاب وعند الاياب، وفي الليل يتوزعون عل شاكلة كمائن ليراقبوا الطرقات المؤدية إلى دار الشريطية.. لا يثنيهم على نشاطهم هذا، برودة الطقس ولا حرارته.. من طول الذهاب والاياب في هذا المثلث، أي دار الشريطية، ومكان وقوف الحافلة ومنتهيا بمقر القيادة. سارت سحنتهم رمادية، يعني لا لون لهم.. حدث مرة عندما تفقدوا منازلهم، نهشتهم كلابهم، وحسبتهم غرابى، من شدة الغياب حتى نسيت رائحتهم.
    المسخ له ألوان وأشكال.. هناك فئة أخرى يسمون الوجهاء الجدد، أصحاب ربطات العنق والكراسي المتحركة.. كانت الشريطية تنظم لهم ليلة الغلطة بشكل دوري، على شكل حفلات بإيعاز من السلطة وينفق عليها بسخاء.. حتى تكتمل الفرحة والسرور يستدعون (ولد الطريرف) قبل أن يتم مسخه ويتحول إلى العروسي، منشط الحفلات والمناسبات المخزنية.. يتم إخبار المدعوين في وقت مبكر، ليعدوا العدة الكافية لحضور الحفل مرفوقين بنسوتهم وهن في أبهى حلة، كيف لا وبن المختار والعلوي من الأعيان المدعويين.. وفي لحظة الرقص الهستيري تختفي إحدى النسوة خلسة، حتى لا تتناسل الأسئلة عن وجهتها.. يقوم محمد بن المختار نحو ولد الطريرف ليضع تحت طاقيته أوراق نقدية محفزا إياه لرفع الإيقاع وقائلا له بصوت مرتفع – الله يعطيك الصحة، فرجتينا هاد الليلة -.
    تعود المختفية كأنها على عجلة من أمرها، ممسكة مقبض شعرها بشفتيها، وقفل حزامها من الخلف.. همست إلى زوجها في أذنه: الزيادة في الراتب مع الترقية والاقامة في المؤسسة. وانخرطت في هستيريا الرقص من جديد، كأنها تشجع الأخريات.. تختفي الثانية دون حرج.
    شرب بن المختار كأسه ومسح على لحيته بكم جلبابه. انتبهت له الشريطية قائلة: الجلباب يعيق الحركة، قم بخلعه فالبرد لم يعد كما كان في المساء.. قاطعهم الصوت المنبعث من السيارة القادمة.. العجلات الأمامية تدور تارة في الوحل وتارة في الهواء، كلما ضغط السائق على الدواسة.

    الجو معتدل وفصل الربيع أيامه باتت معدودة.. اجتازت السيارة النقاط الوعرة.. أسكت المحرك وأطفئت أضواء السيارة.. خرجت الشريطية نحوها لتطمئن رجال السلطة المتواجدين بها.. أعطتهم قائمة الحضور.. أومأ المسؤول برأسه (الأمور على ما يرام).. ابتسمت الشريطية وقالت عبارة القوادات المشهورة: أنا خدمتك وخدمت الحكومة.

الحلقة رقم : 17

    هكذا يكون الاستعمار المباشر قد أقام عدة مراكز، وخلق مؤسسات لتصدير الخراب، وبث الرعب عبر تسطيح الوعي لدى أغلبية السكان لأن المستعمر كان يلعب على أكثر من واجهة واحدة.. بدءا بصناعة النخب المدنية والعسكرية، حتى تصبح منتوجا استعماريا خالصا لتؤمن له المصالح التي جاء من أجلها.
عسكريا قام المستعمر ببناء كوليج آزرو، وفعلا تخرجت أفواج من الضباط تعتبر امتدادا للعسكر الفرنسيين من حيث العقيدة، وأطلق عليها اسم القوة المسلحة الملكية. حتى يوهموا الشعب بأن المخزن أصبح له شبه دولة وله عسكر لحماية الحدود. فقط كانت هذه خطة للجنرال اليوطي لضرب جيش التحرير صاحب العقيدة الوطنية. بات من الواجب على هذا الذراع الواقي لحركة التحرر، أن يواجه العسكر الفرنسي والاسباني وتواطئ العسكر الملكي.
   في هذا الجو اللامتكافئ، تم جر جزء من جيش التحرير بواسطة قائد المئة. فكل عسكري استطاع أن يجر معه مائة فرد من جيش التحرير نحو القوة الملكية، يصبح ضابطا عليهم، أما الجزء الذي رفض إلقاء السلاح، أجزهزت عليه القوة الامبريالية.
    سياسيا وإداريا ومن أجل القبض على زمام السلطة، كان الأغنياء يرسلون أبناءهم على شكل بعثات لكل أنحاء أوربا، حتى يصبحون مغاربة بالاسم فقط. فمحمد تزوج بجاكلين، وأخته تزوجت بجاك. لا يحتاجون في زواجهم هذا لأي فتوى من فقه النوازل، مع العلم أنهم ينحدرون من طبقات ميسورة وجلهم من رجال الدين. وبهذه المصاهرة أصبحوا أوربيين شبه مغاربة.

    في الضفة الأخرى كان المغاربة يصعدون كل مساء للتلال والجبال ينتظرون ظهور القمر الذي يتوسطه السواد، ويشرعون في الثرثرة حتى يعلو لغطهم. يقول الأول أنه رأى رأس الحصان، ويرد الثاني بأنه رأى ذيله، وتبدأ المراهنة. وهم في غفلة من أمرهم عن مراهنة المستعمر على هذه الفكرة لسحق ما تبقى من غبار المقاومة.. لتثبيت الوضع وغلق الدائرة، حرك المستعمر قوته الغازية للقضاء على جيوب المقامة.. وفي طريقهم إلى بني زروال، كان المعلم احمد الحداد صانع (بوحبة) لهم بالمرصاد، الذي بعث بالرقاص رسولا إلى مولاي الشاهد.. بعد التحية والسلام أدرك بأن الغرض من مجيء الرقاص هذا هو أن السلاح جاهز.. ألقى مولاي الشاهد خطبته المشهورة: انتهى زمن العمل في السرية، والعدو يزحف عبر البوابة الغربية. أذن الموقع الجغرافي لصالحنا هناك المنعرجات، النهر والغابات ثم الجبال، والمقاومة مسلحة، وعلى إخواننا المجاهدين في اللبابنة أن لا يبرحوا أمكنتهم إلا عند الحاجة.. وصلت قوافل البغال محملة بالبنادق ومغطاة بالبطانيات.. بدأ الرجال بالتكبير والنساء بالزغاريد.. أتلى مولاي الشاهد ما تيسر من كتاب الله: "وأعدوا لهم من قوة ومن رباط الخيل، ترهبون به عدوكم وعدو الله". فالعزة برفع السلاح، لا برفع البصر نحو القمر.

الحلقة رقم : 18

    بدأ المستعمر يترنح بعدما أذاقته المقاومة طعم الحنضل في الغدير الأزرق، موقع المعركة الذي يبعد عن غفساي ب 4 أو 5 كلم على الأكثر.. تم ذيوع بلاغ من الاقامة العامة، وجاء فيه: لم يثبت أن واجهنا مثل هذه المقاومة الشرسة التي لاقيناها في بني زروال، صمود بطولي وصبر لا حدود له. فعلا كانت سبعة أيام لن تنساها فرنسا.. لم ينج ولو جندي واحد من جنود الغزاة.. شهور وروائح الجثث المتراكمة والدماء المتخثرة تعبق من مكان المعركة، وطنين الذباب الوحشي ظلت تنقله الرياح الغربية والشرقية كلما هبت فوق الغديرة الزرقاء، حتى حل فصل الشتاء. واحتفظ المكان بعظام الغزاة عالقة يسكنها النمل في حر الصيف.
لا يخفى على المتتبعين والباحثين الموضوعيين، بأن هذه الملحمة البطولية هي من أرغمت اليوطي والحركة الشبه الوطنية المتذبذبة بقيادة البورجوازية، عل الدخول في المساومات السرية والعلنية، مستعجلين المرحلة السياسية لطمس الحقيقة ولي عنق الشعب ومعه المقاومة.. ليتم إجهاض الثورة الشعبية قاموا بغلق الحدود المعروفة بزوج بغال، مع الجزائر الشقيقة، وباعوا سبتة ومليلية والجزر، وفرطوا في موريطانيا، وتركوا الصحراء الغربية.. نسجوا القماش الأحمر به النجمة الخضراء، وبشروا بالاستقلال الشكلي، وكتبوا في الكراس بعض السطور سموها الدستور، وأقاموا الطوق على البادية المغربية. حتى أصبحت كالذبابة في شباك العنكبوت.. أقاموا 3 مارس كمناسبة للبهرجة.. نصبوا الخيام العسكرية والمبرقعة، مزينة بأجردة النخل معلقة فيها صور مؤطرة لمن زعموا أنهم شاهدوه خلف لفافات الغيام .. هاهي الآن في مرمى العين المجردة.. لا داعي لأن يبيتوا قانعين رؤوسهم نحو السماء.. سلطاتهم أحضرت لهم جهاز التلفاز بالأبيض والأسود من العاصمة الرباط.. أصحاب العمائم مصطفين في الخيام المبرقعة، خلفهم طوابير من النساء والأطفال منتظرين صناع الفرجة من (الغياطة) على رأسهم المعلم الشنيغري صاحب القامة الطويلة والصدر العريض، يقال عنه أنه ساحر النساء ب (غيطته) خاصة إذا كان بجواره المعلم (بجاقة الطبال).. يقول النساء إليهم: لهلا يحرق فيكم عظام.. في منتصف الليل يأتي دور المعلم احمد الياموذي بكمانه المجلجل، مظهره أنيق، يحلق ذقنه بعناية وحذاؤه من القماش البني الرخيص، وأسنانه الأمامية ذهبية.. يكاد لا تخطئه العين إذا كان بقرب المصباح البترولي.. أخرج شاب يافع من جيبه ريال أبيض، مرره فوق لسانه وألصقة على جبهة المعلم الياموذي طالبا منه تأدية أغنية (رغبت على عين زورة).. نهض شيخ هرم كان جالسا على الهامش اتكأ على عكازه وقال هذا زمن قل فيه الحياء. فالغيطة كلها إيحاءات جنسية ترمز للفحولة، ينبعث منها البخار الدافئ وقطرات اللعاب وعدد ثقوبها سبعة تصنع أنغام تجسد أنين المرأة وتأوهاتها في لحظة الانفجار العظيم.

    مهما بذل الغياطة من جهد لإسعاد الحضور. تبقى الفرجة الكناوية هي المفضلة، حيث الكل يشارك فيها طيلة سبعة أيام. لكن سعيهم قد خاب عندما منعت السلطة هذا النوع من الرقص الجماعي.

الحلقة رقم : 19

    في اليوم الثاني استيقظ المعلم الياموذي باكرا مع اصفرار شمس الأصيل.. بدأ طقسه اليومي بالتفوه، يفرك عيونه بظهر بديه، اليمنى باليمنى واليسرى باليسرى.. فتح ذراعيه وأطلقها مدوية، أجهزت على ما تبقى من الأكسجين في الكوخ.. نهض للتبول.. وقف على الربوة.. أسراب طائر البقر متجهة نحو السوق، لتحط فوق أشجار الكاليبتوس الشاهقة العلو لتنام في اطمئنان، واضعة رؤوسها تحت أجنحتها، برزها أسود اللون، مركب من الدود المهشم ورؤوس النمل، مضغوطة بإتقان.. همهم الياموذي قائلا: أسراب الغراب تنذر بالشؤم وطائر البقر يبشر بموسم الحرث والنسل. أما اللقلق بتوثيقه رجله يرمز للموت وعند فتح أجنحته ذلك دال على الحرية.. بدأت أشعة الشمس المعكوسة من الزجاجة الأمامية للعربة المهترئة (بيجو 403، موديل 1912) تعود ملكيتها لمحمد بريطة المهرب.. تتلوى في المنعرجات.. سرعتها لا تتعدى الدرجة 1.. حصار اليد مربوط بحبل النيلون مع مقعد السائق (صندوق خشبي مغطى بالورق المقوى) عادة ما يخفي فيه المواد المهربة.. يفتح الياموذي عين ويقفل الثانية.. يقاوم أشعة الشمس.. أعياه الوقوف وكاد أن ينهار.. اخترقت السيارة أشجار التين والزيتون والكرم.. اقتربت المهترئة.. أكيد أنه على مثنها، كراب جهنم (الرافة الأشقر) مروج الماحية وبطايق من الكيف المسحوق.. حياه الياموذي عن بعد.. ترجل الرافة ورفع يده.. رسم طلسوما في الهواء مما يدل على أن (الموزيط ممروط).. أمر السائق بركن ال403 تحت الشجرة وسحب المفاتيح، ليتأكد من خلاء الشارع الرئيسي المتجه نحو وسط غفساي.. هي دقائق معدودة ليبتلع بيت الله بقايا عام البون الذين فقدوا آدميتهم وأصبحوا متلاشيات بشرية. أبناء الزانية كلهم وشاة.. متربصين فوق حائط الكراج، من عجزة ومعطوبين وكل مخلفات الحروب الخاسرة.. لكن أبناءهم زبناء وسوق مربحة.. خلع كراب جهنم بذلته العسكرية المهلهلة، وضعها فوق لوحة الترقيم لتمويه دورية الدرك، وحتى لا تعكس القطعة البلاستيكية أضواء السيارات القادمة من الخلف.. السائق مصاب بإسهال.. لابد أنه أكل التين في ساعة القيلولة. قالها كراب جهنم ضاحكا وضرب كفا بكف.. علق المعلم احمد الياموذي: هل هو سائق من شراكة؟ المسكين الله يشافيه.. كان عليه أن يخلطها مع الزميتة.
عاد السائق وسرواله مبلل وسحابة الذباب تتطاير من فوق مؤخرته.. قال لهم: باب المرحاض به قفل، ومحمد الأعور صاحب المقهى أمام الماكينة، خلف الحاجز الخشبي، لا يعطي المفتاح إلا لمن طلب مشروبا أو دخانا بالتقسيط.. إحدى عينيه في سقف المقهى وشفتاه فوق صدره.

    كانت مقهى الأعور وكالة أنباء محلية وجهوية.. لديه أخبار المحكمة وكل أنواع الملفات، جنائية، جنحية، نزاعات الأزواج، عدد حالات الطلاق والزواج، أخبار الجماعة القروية والدائرة، نكت على الأعضاء، أخبار المدرسات العازبات وخاصة منهن المقبلات على التقاعد لأنهن يشكلن نقطة مركزية في تفكيره.. كان يقول لهن أخرجوا الحصيصة واتبعوني إلى مولاي بوسلهام هناك أملك فيلا على شاطئ البحر.

الحلقة رقم : 20

    وصول الرافة متأخرا شيء غير عادي وله عواقبه، علاقته بالسلطة لم تعد كما كانت من قبل، ولم تشفع له المدة التي قضاها بالسجن العسكري بالقنيطرة، وحتى جسده الموشوم بالأخضر والأزرق والمزين بالثعابين وأجساد النساء، والقلوب التي تخترقها السيوف والرماح.. رغم كل هذه العننرية والفنتازية، أوقفته أول نقطة تفتيش المرابطة على مدخل غفساي.. لأول يؤمر بإنزال السلعة.
     فور سماع الخبر، خرج السكايرية من جحورهم والحشايشية من مخابئهم والمدمنين من منازلهم.. وجدوا المدينة على غير عادتها.. حشود بشرية هنا وهناك، كل على حسب حاجته.. وقفت سيارة مزينة بأضواء بنفسجية، خلفها سيارة مكتوب على جنباتها (نقل أموات المسلمين). رغم أنه للناس مطالب دنيوية.. ترجل الدركي وأمر بإخلاء المكان.. الامام ملقى على ظهره ومصاب بكسر في عموده الفقري جراء وقوع رجله فوق روث البقر.. انطلقت التظاهرة بشعار : الامام هاهو والكراب فيناهو، الفقيه داويتوه والرافة تلفتوه.
    كان أول زبون هذا المساء هو الناموري راعي بقر القرية.. طلب بطاقة من مسحوق الكيف.. أراد كراب جهنم أن يمزح معه كما جرت العادة بينهما، أمسكه من طاقية الجلباب ثم وقعت يده على جزاجة صغيرة يعطى فيها الحليب للأطفال.. قال كراب جهنم: لماذا أنت مضرب عن العمل؟ وتركت البقر يتسكع ويروث في الشوارع.. إضرابك هذا فرض على المدينه حضرا للتجول.
أجاب الناموري: كل ما في الأمر هو أن من كان يتقدم القطيع ويحرسه ويوصله إلى مالكه بسلام هاهو يحتضر.
كراب جهنم: من هو هذا الذي يحتضر؟
الناموري: (غريط) المسكين فقد ذيله في إحدى معاركه مع الذئاب، وكلاب السوق خلف الوادي تنتظر طلوع النهار لتضفر بالعظام والجلود ولعق الدماء، وما يحزنني هو سقوط أنياب (غريط) الأمامية وفقدانه حاسة السمع، ولم يعد قادرا على قيادة القطيع، و حتى إذا غامر حتما ستسحقه حافلة الغزاوي دون رحمة، أما الرضاعة فوجدتها في قمامة دار السي علي المدير، ألقت بها إحدى زوجاته الثلاثة لتضع مكانها صورة الجد المؤطرة. هكذا قالت.. قاطعه الرافة ونزع الرضاعة من يده، ووضعها في سترته العسكرية المهلهلة.. علق الناموري في قرارة نفسه: غالبا ما سيملؤها بالماحية ويبيعها للتلاميذ… عدو الله.. أمره الرافة بالجلوس.. فتح قنينة الماحية من الحجم المتوسط.. شربها دفعة واحدة وألقى بها نحو ضريح سيدي احمد البهلول. وسماها شربة المحترفين، أما الكأس فشأن المبتدئين.. تنفس بعمق واستأنف الكلام مع الناموري.. حالة غريط ماهي إلا مقدمة، سيقومون بتشريد كل من خدمهم وساساتنا كلهم يعانون من العقم على شاكلة السي علي وتنتهي حياتهم بجلطة دماغية.. غفساي أصبحت مدينة كبيرة، أقاموا فيها السجن ومحجز للدواب، وأوكلوا مهمة مطاردة الدواب لشخص من حثالة العلويين مصاب بالبرص ووجهه يثير الغثيان، يلوح بعصاه ويقول: فاينكوم يا مالين البهايم، والمجلس القروي جهز (اليزيد) بالبذلة الزرقاء وعربة يجرها بغل لكنس الروث، كيف لا و (عامل) المدينة سيؤدي صلاة الجمعة في الجامع الكبير، وكانت خطبة الإمام كلها إشارات قوية لاقتصاد الدولة والمفاجئة أنه دعى بالخير لأشقاءنا في الجزائر، مشيرا إلى أن القيادة الراشدة عثرت على حل لهذا النزاع المفتعل. فالحدود مع الأشقاء ستبقى مغلقة في وجه الفقراء، والتبادل التجاري سيتم بواسطة النقل الجوي.

فاقتصادنا الوطني يزدهر يوما بعد يوم بتوسع محيط كتامة، وإخواننا في الجزائر أصبحوا من الرواد في صناعة القرقوبي.

 

قد تعجبك أيضاً

اترك تعليقًا