بعد 100 عام من
“سايكس ـ بيكو” و”وعد بلفور”:
الشعوب العربية أمام مصيرها
حمة الهمامي
نصّ مداخلة حمه الهمامي في الدورة الثامنة لـ «اللقاء اليساري العربي” الذي انتظم أخيرا بتونس تحت شعار: “فلسطين: مائة عام من المقاومة”.
بعد مائة عام ونيف من اتفاقية “سايكس ـ بيكو” (1916)التي قسّمت بموجبها القوى الاستعمارية الرئيسية آنذاك (فرنسا، انجلترا) الوطن العربي، وبعد مائة عام من وعد بلفور (1917) الذي شرّع اغتصاب فلسطين، تجد الشعوب العربية نفسها في مواجهة محاولة تقسيم جديدةعلى أسس، دينية، طائفية ومذهبية، وقبلية وأتنية، تدفع إليها القوى الامبريالية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وحليفها الكيان الصهيوني والرجعية العربية والإسلامية بالمنطقة والجماعات والعصابات الإرهابية المتطرفة التي تعمل على تنفيذ مشروع التقسيم هذا.
إن مشروع التقسيم الجديد، وإن كان هدفه لا يختلف عن هدف اتفاقية “سايكس ـ بيكو” التي يعود الفضل إلى لينين-قائد ثورة أكتوبر 1917 العظيمة في فضحها-وهو تأبيد السيطرة على الوطن العربي وعلى شعوبه، فإنه جاء في ظرف غير ظرف الحرب العالمية الأولى. إن هذا المشروع الجديد جاء على إثر ثورات وانتفاضات اندلعت منذ مطلع العام 2011، في أكثر من قطر عربي، بمضامين وطنية، معادية للإمبريالية، وديمقراطية واجتماعية، ومن هذا المنطلق فإن الغرض منه هو إجهاض هذه الثورات والانتفاضات والانحراف بها عن أهدافها الأصلية وتدشين مرحلة جديدة من الهيمنة والاضطهاد.
محاولة للتحرر من الاستبداد والفساد والهيمنة الاستعمارية
1ـ لقد حاولت معظم الشعوب العربية قبل ستّ سنوات التخلص من أنظمة الاستبداد والفساد والاستغلال فثارت وانتفضت وتحركت في تونس ومصر والمغرب وليبيا وسوريا والبحرين واليمن وغيرها من البلدان، مطالبة بالحرية والديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية والكرامة، ولكن النتيجة لم تكن نفسها في كل مرة وفي كل حالة. فقد عرفت هذه الثورات والانتفاضات مسارات مختلفة حكمتها من جهة موازين القوى الداخلية ودرجة وعي الشعوب وتنظّمها،ومن جهة ثانية موازين القوى الإقليمية والدولية.
فإذا كان الشعبان التونسي والمصري تمكنا من إسقاط الدكتاتورين اللذين يحكمانهما، ومن تحقيق خطوة هامة في اتجاه تحررهما، قبل أن تنتكس ثورتاهما وتلتف عليهما، بهذه الدرجة أو تلك، القوى الرجعية، من بقايا النظامين القديمين أو من “الإخوان المسلمين” الذين ساندتهم القوى الامبريالية والرجعية العربية والتركية على الصعود إلى السلطة، فإن الأمور ذهبت في طرق أخرى في باقي البلدان.
لقد تمكنت الرجعية المغربية من لجم انتفاضة 20 فبراير الشبابية عن طريق القمع والإسراع بتقديم تنازلات، اعتبرتها الحركة الديمقراطية المغربية شكلية، لكنها ساهمت في تحييد جزء من الطبقات الوسطى (التعديل الدستوري) وجزء من الطبقة العاملة (المفاوضات مع المركزيات النقابية واتفاق أفريل معها) واستفادت من تشتت القوى الديمقراطية ومن التناقضات بينها وبين جماعة العدل والإحسان.
كما تمكنت الرجعية السعودية من إغراق انتفاضة البحرين في الدم، خوفا من تطورها ومن تأثيراتها في المنطقة ومن أن تستفيد منها أغلبية السكان الشيعة، المهمّشة من نظام الحكم الاستبدادي. وفي ليبيا وسوريا واليمن، سرعان ما تحولت الحركات السلمية المطالبة بإصلاحات ديمقراطية واجتماعية، إلى حروب أهلية وإقليمية مدمرة.
ففي ليبيا، حيث تدخلت القوات الأطلسية، انتهى الأمر إلى إسقاط نظام العقيد القذافي وتحويل البلاد إلى فضاء للفوضى ومرتع للجماعات الإرهابية القادمة من أكثر من بلد والتي ظلّت تهدد أمن دول المنطقة وخاصة تونس والجزائر ومصر ومالي.
وفي سوريا، وضعت كل من قطر والسعودية وتركيا كل ثقلها، بدعم أمريكي غربي صهيوني، لإسقاط النظامالبعثي وتدمير الدولة السورية وتفكيكها وتحويلها إلى كيانات طائفية تحت سلطة عصابات المرتزقة المستقدمين بعشرات الآلاف من عدة دول عربية وإسلامية.
وفي اليمن وبعد فترة، من الهدوء المغشوش الذي عقب خلع الرئيس علي عبد الله صالح، اندلعت الحرب الأهلية من جديد وسارعت الرجعية السعودية بتكوين تحالف عسكري عربي وتدخلت بشكل مباشر لمواجهة تطور تأثير الحوثيين المدعومين من إيران، وهو ما حول “اليمن السعيد” إلى خراب.
وإلى كل هذا ففي العراق لم تتغير الأوضاع جوهريا منذ العدوان الأمريكي الغربي في عام 2003، بل إن الحالة ما انفكت تسوء أكثر فأكثر بحكم الصراعات الطائفية التي وضع أسسها المحتل الأمريكي والتي ما انفكت تغذّيها التدخلات الإقليمية.
استراتيجية استعمارية لإعادة تقسيم المنطقة
2ـ إن الامبريالية الأمريكية التي ما تزال اللاعب الرئيسي في منطقة الشرق الأوسط، قد عملت، في إطار مراجعة لأولوياتها التي تتجه الآن نحو التركيز على منطقة المحيط الهادي، على تعويض التدخل المباشر في الشرق الأوسط بوسائل وأدوات أخرى، من بينها إثارة الحروب الأهلية الرجعية، باستخدام عملائها التقليديين من العائلات المالكة القروسطية، في السعودية وقطر والإمارات والأردن، وفي “تركيا أردوغان” وبتدريب وتمويل وتسليح واستعمال عصابات وميليشيات مرتزقة وظلامية، تعارض بشدة القوى الثورية والديمقراطية والتقدمية والمناهضة للإمبريالية، بل تعارض بشدة كل محاولة لتغيير موازين القوى لصالح شعوب المنطقة بما يفتح أمامها أبواب التحرر والتقدم،
وفي هذا الإطار فإن السياسة التي تكرسها الولايات المتحدة الأمريكية، سابقا وحاضرا، في سوريا وليبيا والعراق واليمن، والتي يستخدم فيها ما يسمى “جيش الدولة الإسلامية” وغيره من الميليشيات والفصائل المرتزقة المسلحة (القاعدة، جيش النصرة…) التي هي في الأساس منتوج من منتجات التدخلات الامبريالية في المنطقة، لا غرض منه سوى إجهاض المسارات الثورية والديمقراطية والتحرّرية للشعوب العربية التي هي في حاجة إلى التخلص من الهيمنة الأجنبية ومن الاستعمار الصهيوني، وإلى وضع يدها على خيراتها لتحقيق ازدهارها وإلى إعادة تنظيم دولها على أسس عصرية وديمقراطية وتقدمية، وإدخال هذه الشعوب ومجتمعاتها في صراعات دينية ومذهبية، دموية ومدمرة، لإلهائها عن قضاياها الحقيقية وحرف أنظارها عن أعدائها الحقيقيين، الامبرياليين والصهاينة والرجعيين من الحكام العرب والمسلمين.
ومن جهة أخرى فإن الولايات المتحدة الأمريكية تهدف من خلال إثارة الفوضى والحرب في المنطقة إلى منع القوى الرأسمالية والامبريالية المنافسة لها من الاستفادة من الوضع الذي يتيحه سقوط أو اهتزاز عملائها، ومن كسب مواقع على حسابها وعلى حساب حليفها الكيان الصهيوني، رأس حربتها في المنطقة، وحلفائها من الأنظمة الرجعية العربية. إن الولايات المتحدة تدرك أن القوى الاستعمارية القديمة التي كان لها قدم في المنطقة (فرنسا، انجلترا ….) تحن إلى العودة إليها بقوة. كما أنها تدرك أن روسيا، التي استعادت شيئا من قوتها العسكرية، لها مصلحة في استعادة بعض مناطق نفوذ الاتحاد السوفييتي سابقا وحماية نفسها من توسع أنشطة الجماعات الإرهابية. أما الصين فلا تخفى حاجتها إلى الأسواق وإلى مصادر الطاقة لتلبية ما تحتاجه إلى تشغيل صناعتها.
وفي المحصلة فإن الولايات المتحدة تريد فرض تقسيم جديد للمنطقة على أسس دينية ومذهبية طائفية وأتنية لتأبيد تمزق الوطن العربي وتأجيل نهوضه على أسس عصرية، ديمقراطية وتقدمية، وضمان استمرار تفوق الكيان الصهيوني، وهي لا تجد من أداة أفضل من الجماعات الإرهابية الظلامية المسلحة التي تدمّر الدول وتقضي على مقومات وجودها وتخرب كل ما لديها من مكاسب حضارية وثقافية تشكل هويتها وتزرع الأحقاد المذهبية وتستعمل أبشع وسائل القتل والتعذيب وتدمر المنجزات الاقتصادية والعلمية وتلغي المكاسب الاجتماعية للعمال والشغالين وكل خطوة خطتها النساء نحو نيل حريتهن وهو ما يحول المنطقة إلى مجموعة من الدويلات الضعيفة والمتخلفة التي لا تشكل أي خطر على مصالح الامبريالية الأمريكية وحلفائها.
اتساع رقعة الصراع ونشر فوضى عارمة
3ـ لقد نجم عن هذا الوضع اتساع رقعة الصراع. فقد أصبحت كبريات القوى الدولية والإقليمية، تتدخل بصورة مباشرة في سوريا والعراق واليمن وليبيا. وهي تتشكل عمليا في تحالفين رئيسيين، الأول، وهو الطاغي، يتمحور حول الولايات المتحدة الأمريكية ويضم فرنسا وتركيا والسعودية وغيرها من الدول التي تعمل في ركاب الولايات المتحدة، والثاني يضمّ روسيا (وإلى حدّ ما الصين) والنظام السوري وإيران وحزب الله اللبناني والجماعـــــــة الحوثية باليمن. وإلى ذلك كله فمن الواضح أن القوى الغربية لم تتخل إلى اليوم عن فكرة التدخل في ليبيا في الوقت الذي أصبحت فيه روسيا تبحث لنفسها عن حلفاء في هذا البلد ولا تستبعد هي أيضا التدخل في مجريات الأحداث في هذا البلد الشقيق لدعم بعض أطراف النزاع. كما تستغل القوى الغربية الحالة في تونس لتعزّز حضورها. وهي تراقب تطور الأوضاع في الجزائر الغنية بالثروات الطبيعية، كل ذلك تحت غطاء مقاومة الإرهاب.
ولكن غير خاف أن “الحرب على الإرهاب” ما هي إلا غطاء لإخفاء الحرب الحقيقية التي تخوضها كبريات الدول الرأسمالية، بصورة مباشرة أو بالوكالة، من أجل السيطرة، في هذه المرحلة التي يعجز فيها النظام الرأسمالي العالمي عن حل أزمته المتواصلة من عام 2008، على مصادر المواد الأولية والنفط والأسواق والمواقع الاستراتيجية، ومن أجل الحفاظ على حلفائهم وترسيخ قدمهم في المنطقة. إن الإرهاب وأدواته هما من صنع القوى الامبريالية وعلى رأسها الامبريالية الأمريكية، وفي كل يوم تنكشف معطيات جديدة حول الارتباط العضوي للجماعات الإرهابية بالقوى الاستعمارية وأذنابها من الدول الخليجية ومن تركيا.
وما من شك في أن المستفيد الأول إقليميا من هذا الوضع الكارثي للأقطار العربية ومن تمزيق صفوف شعوبها وتدمير دولها وتخريب اقتصاداتها ونهب ثرواتها وتهجير أعداد كبيرة من بناتها وأبنائها، هو الكيان الصهيوني. إن هذا الكيان المزروع في قلب الوطن العربي، ما كان يحلم بمثل هذا الوضع الكارثي عند انطلاق الثورات والانتفاضات العربية. وقد استغله الكيان للانفراد بالشعب الفلسطيني والإيغال في اضطهاده وتهجيره وتقتيله واغتصاب بقية أراضيه والاستمرار في تهويدها وإلغاء هويتها العربية الفلسطينية. كما استغله لتوسيع تأثيره ومد عروقه في المنطقة والتطبيع مع معظم دولها، بشكل علني وسافر أكثر فأكثر.
كما أن قوى أخرى ومن بينها تركيا “أردوغان”، التي تبحث عن التوسّع، استغلت هذا الوضع للتنكيل بالشعب الكردي وقواه الديمقراطية والتقدمية وتوسيع نفوذها على حساب جاريها السوري والعراقي، والمساهمة في نهب ثرواتهما الطبيعية وفي سرقة منجزاتهما الصناعية، على طريقة اللصوص وقطاع الطرق. وهي تجد في ذلك كل الدعم من الامبرياليات الغربية التي يجمعها بها الحلف الأطلسي، كما يجمعها بها العداء لحركات تحرر شعوب المنطقة المضطهدة والمحكوم عليها بالتخلف.
ولا يمكن عدم التعرض للتدخل الإيراني في المنطقة أيضا. إن نظام طهران، يتدخّل في أكثر من قطر عربي، وهو جزء من التحالف الإقليمي الدولي الذي يشمل روسيا والصين وسوريا الخ… ويتدخل النظام الإيراني في العراق إلى جانب النظام الطائفي المنصّب أمريكيا منذ احتلال البلد في عام 2003. والذي يمارس التمييز ضد السكان السنة. كما يتدخل في اليمن إلى جانب الحوثيين الذين يواجهون ما يسمى “التحالف العربي” بقيادة الرجعية السعودية، مما أعطى هذا الصراع طابعا طائفيا، سنيا ـ شيعيا. وفي سوريا يدعم النظام الإيراني نظام بشار الأسد الذي يواجه حلفا سعوديا، تركيا، قطريا، غربيا، صهيونيا يهدف إلى تفتيت سوريا وتنصيب نظام خاضع للإرادة الصهيونية الأمريكية فيها.
وإذا كان تقييم التدخل الإيراني قد يختلف من بلد إلى آخر، ومن وضع إلى آخر، حسب طبيعة الصراع القائم، (دعم إيران النظام السوري مثلا ساعد على منع تفكيك الدولة وتفتيت الأرض بالكامل لصالح الجماعات الإرهابية والكيان الصهيوني وقطر وتركيا والسعودية والاستعمار الغربي، بينما دور إيران في العراق دعّم النظام الطائفي الذي نصبه الأمريكان بعد غزو البلد الخ…)، فإن خيطا رابطا وحيدا يقود النظام الإيراني في كل تدخلاته وهو مصالحه القومية في المنطقة وفي الساحة الدولية.
وفي كلمة فإن الوطن العربي تنهشه اليوم الكواسر من كل جهة، وتضعفه التدخلات الأجنبية وتؤجّل تحرّر شعوبه.
الشعوب العربية الضحية الأساسية
4ـ إن الشعوب العربية ما كانت تريد لنفسها هذا المآل وهي تنتفض ضد مستغليها ومضطهديها من أنظمة الاستبداد والعمالة ومن القوى الامبريالية. لقد كانت تطمح إلى التحرر من الاستبداد والاستغلال الفاحش والفساد والهيمنة الأجنبية وإلى نيل حريتها وتحقيق نهوضها في كافة المجالات. كما أنها كانت تطمح إلى تطوير التعاون فيما بينها ولم لا تحقيق وحدتها ووضع حد لحوالي القرن من التقسيم الذي أحدثته اتفاقية “سايكس ـ بيكو”، سيئة الصيت. ولكن غياب قيادات ثورية، وطنية وديمقراطية وتقدمية، حقيقية ومؤثرة، وقادرة على السير بثورات الشعوب العربية وانتفاضاتها إلى نهايتها أي إلى حد افتكاك السلطة من الطبقات والقوى الرجعية وبناء السلطة الشعبية، الثورية الجديدة، هو الذي فسح المجال أمام القوى الامبريالية والرجعية، المحلية والإقليمية، كي تتلاعب بمصائر الشعوب العربية وتجهض ثوراتها وانتفاضاتها وتنحرف بها عن أهدافها الأصلية.
إن الخطأ ليس في كون الشعوب العربية ثارت أو انتفضت، كما تزعم بعض الأصوات المأجورة لتخيف هذه الشعوب من الاستمرار في النضال، وإنما كما قلنا في غياب التنظيم الثوري، الحزبي أو الجبهوي، لإنجاز مهام الثورة وفق برنامج ثوري واضح يعكس مصالح العمال والكادحين وكل الفئات الشعبية. وكم من مثال في التاريخ يبين أن أكثر من ثورة، أدت في غياب مثل هذا التنظيم وبالتالي مثل هذه القيادة، إلى عكس ما كانت تهدف إليه، إلى إعادة انتصاب القوى المعادية للثورة في السلطة، وإلى استعمال أبشع الأساليب في التعامل مع الطبقة العاملة والكادحين عموماوتأديبهم على جرأتهم على النضال والثورة. لذلك فلا خلاص لهؤلاء إلا في الاستمرار في النضال وتجاوز نقائصهم وأخطائهم.
ومن هذا المنطلق فإن ما تتعرض له الشعوب العربية اليوم من مؤامرات ومحاولات تقسيم جديدة ومن مجازر ومذابح على أيدي فرق الموت المدعومة من القوى الامبريالية ومن الصهيونية والرجعية العربية والإسلامية، ليس استثناء في التاريخ، بل هو نتاج منطقي لوضع تاريخي معقّد جدّا. وليس أمام الشعوب العربية من مخرج من هذا الوضع غير استخلاص الدرس منه وأخذ مصيرها بيدها كي تستعيد المبادرة وتنتفض ضد المؤامرات التي تحاك ضدها وتحقق آمالها وطموحاتها.
خلاص الشعوب العربية في النضال
5ـ إن أمام الشعوب العربية فرصة لا تعوض لكي تدرك أن لا مخرج لها مما هي فيه إلا عبر ثورات وتغييرات وطنية وديمقراطية وتقدمية واجتماعية عميقة وحقيقية، تحسم فيها أمرها نهائيا وبشكل جذري، مع الأنظمة والقوى الرجعية والاستعمارية والصهيونية التي حكمت عليها بالعبودية والتخلف. إن كافة الشعوب معرّضة في هذه الفترة أو تلك من تاريخها إلى الانتكاس، ولكن ما يفرّق شعبا عن شعب هو قدرته على النهوض بسرعة واستعادة عافيته ومواصلة مسيرته، وفرض إرادته على أعدائه، وهو أمر لا يتم بصورة عفوية، بل لا بد له من وعي وتنظيم.
إن الشعوب العربية رغم الأوضاع المعقدة التي تعيش فيها وشراسة الأعداء الذين تواجههم وتعدد التدخلات الأجنبية، الإقليمية والدولية، فإنها لم تتوقف عن النضال وهي تحاول أن تتجاوز العوائق التي تقف في وجهها. فالشعب الفلسطيني أطلق شبابه العام الفارط انتفاضة جديدة أربكت الصهاينة الذين عملوا بكل الوسائل على منعها من التحول إلى انتفاضة شعبية. وإلى ذلك فإن أشكال المقاومة الفردية والجماعية ومنها “معركة السكاكين” لم تتوقف. وفي العراق تتطور منذ مدة حركات مدنية، متجاوزة للطوائف، يشارك فيها العمال والأجراء والتجار والموظفون والشباب والنساء، ضد غلاء الأسعار وضد الفساد والفقر والبؤس.
وفي لبنان كذلك برزت تحركات مدنية، شعبية، ضد الفساد وسوء الخدمات الاجتماعية. وفي تونس، لم يتوقف النضال الاجتماعي ضد الاختيارات النيوليبرالية المتوحشة للائتلاف الحاكم الذي قطع شوطا هاما في الالتفاف على الثورة. كما أن الجبهة الشعبية والقوى الديمقراطية المعارضة لهذا الائتلاف لم تتنازل عن مطالب الثورة وظلت وفية لهاومصرة على مواصلة المسار الثوري، وقدرت على إفشال بعض مخططات الحكم وتعطيل بعضها الآخر.
وفي المغرب، رغم القمع الوحشي تواصل الحركة الديمقراطية والثورية والاجتماعية مسيرتها بثبات ضد وحشية رأس المال والقمع الملكي. وقد عرفت منطقة الريف حراكا واسعا أخذ طابعا اجتماعيا وسياسيا إثر اغتيال البوليس بائع سمك بطريقة وحشية. وفي مصر لم تنفك القوى الديمقراطية تناضل من أجل الحفاظ على ما تحقق للشعب المصري من مكاسب ديمقراطية في مواجهة الحكم العسكري الذي أسقط حكم “الإخوان” إثر حراك 30 جوان/يونيو 2013.
ومن المؤكد أن كل هذه الحركات في الأقطار العربية من شأنها أن تهيئ لنهوض ثوري وطني وديمقراطي واجتماعي جديد. ولا نعتقد أن هذا النهوض سيستثني في المرة القادمة بلدانا كالسعودية وقطر وغيرهما من الدول الخليجية الرجعية التي أنقذها في الفترة السابقة ضعف الثورات والانتفاضات الحاصلة في أكثر من بلد عربي وهو ما سهّل لها التآمر عليها بمعية القوى الامبريالية وصرف أموال طائلة من أجل إجهاضها وحرفها عن أهدافها.
ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن ننسى ما يعانيه الأكراد من ظلم ومهانة في مختلف الأقطار التي يتوزعون عليها نتيجة اتفاقية سايكس ـ بيكو التي حرمت شعب صلاح الدين الأيوبي من تحقيق حريته ووحدته. ونحن نلاحظ اليوم ما يخوضه الأكراد من نضالات للدفاع عن حقوقهم القوميةالمشروعة في مواجهة الرجعية التركية والجماعات الإرهابية.
وما من شك في أن نضال الأكراد يدعم نضال الشعوب العربية وشعوب المنطقة من أجل حريتها واستقلالها، طالما أنه لم يوظّف إن إقليميا أو دوليا لخدمة أهداف الكيان الصهيوني والقوى الاستعمارية الغربية لعرقلة نضال الشعوب العربية من أجل التحرر والانعتاق والوحدة.
تدارك تخلف العامل الذاتي
6ـ ولكن أي نهوض شعبي عربي، جديد في أي بلد من البلدان لن يبلغ أهدافه إذا لم تتوفر له القيادة الثورية، القادرة على تدارك تأخر العامل الذاتي على العامل الموضوعي. لذلك لا مناص اليوم، مــــــن الإسراع بإعادة بناء الحركة الثورية والتقدمية العربية على أسس صلبة، إعادة بنائها، قطريا وقوميا، حول مشروع ثوري وتحرري كبير، وهو ما يتطلب جهدا ووقتا، ولكن لا بد من الانطلاق فيه دون تردد أو انتظار.
إن الفرصة، رغم قتامة الوضع الراهن، متوفرة لكي تجعل الشعوب العربية من المعركة الراهنة آخر المعارك التي تخوضها قبل الفوز بحريتها واستقلالها ووحدتها، لكن ذلك يبقى مشروطا بمدى تحمل القوى الثورية وعلى رأسها القوى اليسارية، لمسؤوليتها، في توضيح الرؤية، وصياغة البرامج وتحديد الاستراتيجيات والتكتيكات وتنظيم الصفوف.
إن الحروب المذهبية والطائفية المثارة من قوى الاستعمار والتي تجد أدوات لها في الداخل، لتشهد، لمن يريد استخلاص الدرس، على أن لا بديل لأي شعب من الشعوب العربية عن الوحدة في إطار دولة وطنية مستقلة، علمانية، عصرية، اجتماعية، تقدمية، تتعايش فيها كل الأديان والطوائف والمذاهب والأعراق، دون تمييز وتكون الأساس الذي تنبني عليه أي وحدة عربية شاملة في المستقبل.
إن تجربة “الإخوان” وما يمارسه “الدواعش” وغيرهم من الفرق المتطرفة والعميلة للاستعمار، يبينان بما لا يدع أي مجال للشك أن الشعوب العربية، إذا أرادت فعلا أن تتحرر وتتوحّد، فلا مفر لها من الفصل بين الدين والسياسة، بل لا مفر لها من جعل المواطنة، لا الانتماء الديني أو المذهبي، أو القبلي والأتني، الأساس الذي تنبني عليه الدولة. “لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة” كما قال الشيخ محمد عبده، مفتي الديار المصرية في مطلع القرن العشرين، و”العلمانية أو الموت”، كما قال المفكر الحرّ، نصر حامد أبو زيد، قبل وفاته بمدة قصيرة، في رد على سؤال حول هل أن العلمانية ضرورية أم لا في البلدان العربية؟
إن هذه الدولة الوطنية، المدنية العلمانية، الديمقراطية والتقدمية والاجتماعية، لا تمثل الإطار الذي يحقق فيه العمال والكادحون وكل الفئات الشعبية الأخرى، تحرّرهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي فحسب، بل هي أيضا الإطار الذي يحققون فيه حريتهم الفكرية والدينية. أما الدولة “الإخوانية” أو “لداعشية” الوهابية أو غيرها من الدول القائمة على الدين كالسعودية وغيرها من دول المنطقة، فهي دولة لا تحترم بالمرة حرية العقيدة بل هي تفرض على الناس قراءة محددة للدين موغلة في التخلف، وخادمة لمصالح الأقليات الطبقية الرجعية، وهي تقمعهم، وتحرمهم من أبسط حقوقهم إن لم يخضعوا لإرادتها. وهو ما يعكس الطابع المعادي للديمقراطية لهذه الدولة التي تتغطّى بالدين، مثلما تغطّت الدولة الفاشية التقليدية بالقومية، لتسلّط على العمال والكادحين والنساء والمثقفين والمبدعين أفظع أساليب القمع والاستغلال والاضطهاد.
أما في فلسطين التي تمثل حالة استعمارية استثنائية، فقد بينت الوقائع أن حلّ “الدولتين” حل وهمي، لم يستفد منه منذ أوسلو سوى الكيان الصهيوني الذي تضاعفت مستوطناته خاصة في الضفة واشتدت سيطرته على القدس كما احتدّ بطشه بالشعب الفلسطيني. وحتى هذا الحل المغشوش يتم التراجع عنه اليوم مع إدارة الفاشي الجديد، “دونالد ترامب”، الذي أصبح يتحدث “عما يتفق عليه الطرفان الإسرائيلي والفلسطيني”، متخليا بذلك بشكل صريح عن اتفاقيات أوسلو. ومن هذا المنطلق فإن الحل الحقيقي للقضية الفلسطينية يكمن في إقامة الدولة الوطنية الفلسطينية، العلمانية والديمقراطية، على كامل أرض فلسطين المحررة من الاستعمار الصهيوني. ومهما كانت الصعوبات التي تواجه هذا الحل فإنه يبقى الحل الواقعي الوحيد لتمكين الشعب الفلسطيني من حقه وتخليص بقية شعوب المنطقة من هذا الكيان الاستيطانيالغريب الذي زرع بالقوة في المنطقة ليمثل قاعدة متقدمة للاستعمار الغربي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية.
الاعتماد على الذات شرط للنجاح
7ـ هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن مسألة أساسية تطرح على شعوبنا وشعوب المنطقة بأسرها، كما تطرح على القوى الوطنية والديمقراطية والتقدمية العربية، وهي مسألة التعويل على الذات أولا وأساسا لتحقيق التحرر والوحدة وبالتالي التخلص من ظاهرة العجز المستبطن منذ عقود والذي زرعته في وعي شعوبنا القوى الاستعمارية الغربية والصهيونية وأدواتهما المحلية من أنظمة وقوى رجعية متخلفة، ومفاده أن شعوبنا عاجزة عن تحرير نفسها بنفسها وأنه لا بدّ لها من “ولي أمر” أو “قوة كبرى حامية” لكي تحقق أهدافها.
إن واجبنا هو أن نعالج هذه المعضلة، وأن نزرع في شعوبنا وعيا جديدا لتقدر على تحرير نفسها بنفسها. إن تعقّد الأوضاع وصعوبتها مثله مثل شراسة أعداء أمتنا واختلال موازين القوى حاليا لفائدتهم لا يمكن أن يشكل بأية حال ذريعة للتفريط في استقلالية القرار وترك سلطة القرار بيد الآخر حتى لو كان حليفا فما بالك إذا كان حليفا مزيفا أو عدوا في جبة صديق، فما من طرف أجنبي يتدخل اليوم إلا وله مصالحه ومخططاته التي توجّهه ولا يمكننا أن نتعاطى معه بحنكة إلا إذا كان أمرنا بأيدينا. إن الشعب أو الأمة التي لا تقدر على تحرير نفسها، لن يحرّرها الغير ولن يقوم مقامها في إنجاز ثورتها ونهضتها.
إن هذا لا يعني أن ظروفنا المعقدة والصعبة لا تفرض على شعوبنا تحالفات وتفاهمات ظرفية أو مرحلية، أو أنها لا تفرض عليها أن تتعاطى بحنكة ودراية كبيرتين مع التناقضات لفرزها وترتيبها، والتمييز بين ما له الأولوية وبين ما هو ثانوي، أو أنها لا تدعوها إلى استغلال التناقضات حتى بين الأعداء. كل هذا مشروع ومطلوب ولكن لا يقدر عليه إلا حزب أو قوة ثورية تتمتع بالاستقلالية الفكرية والسياسية والتنظيمية وتستند في المقام الأول إلى شعبها لأنه الضامن الحقيقي للنجاح. كما تستند في المستوى القومي والأممي إلى أصدقاء حقيقيين يحترمون سيادتها.
وحين يكون عندنا نقص أو عجز فعلينا أن نواجهه بكل جرأة، ونوفّر شروط تداركه، لا أن نتّخذه ذريعة لكي نفرّط في استقلاليتنا ونتّكل على غيرنا لأننا في هذه الحالة لن نحقق أهدافنا وحتى إذا تحققت فبشكل جزئي ومشوه. إن التجارب الناجحة في التاريخ، هي التجارب التي عرفت قياداتها كيف تحافظ على سيادة قرارها حتى في أصعب الظروف، ولا تقبل العون والسند إلا في حدود احترام هذه السيادة وعدم النيل منها.
إن ما جرى ويجري في فلسطين، منذ أوسلو خاصة، يبين بشكل غير قابل للطعن فساد المساومات التي تستبدل التعويل على القوى الذاتية أولا وأساسا، بالتعويل على “التعقّل” المستحيل للعدو الصهيوني و”الحياد” الكاذب للولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من القوى الاستعمارية الغربية الداعمة للكيان الصهيوني، و”الأخوة” الزائفة للأنظمة الرجعية العربية التي تتآمر على القضية الفلسطينية وتعمل على قبرها.
أما ما يجري في سوريا فهو دليل آخر على ما ذهبنا إليه. فهل كان من المحتم أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه اليوم من حرب مدمرة تتدخل فيها بشكل مباشر قوى إقليمية ودولية؟ بالطبع لا، فالقوى الخارجية لم تتدخل إلا لكون قوى داخلية خلقت الظروف الملائمة لذلك التدخل. فالنظام السوري، أحببنا أم كرهنا، وبقطع النظر عن تطورات الوضع وما رافقها من تغيير في التناقضات، فإنه يتحمل جزءا من المسئولية لأنه واجه الحراك الإصلاحي الذي انطلق في البداية بشكل سلمي، عن طريق القمع، وهو ما سهّل التدخّل الأجنبي بمساعدة من قوى سياسية داخلية استخدمتها قطر وتركيا والسعودية بالإضافة إلى الكيان الصهيوني والقوى الاستعمارية الغربية بهدف تدمير الدولة السورية وتفكيكها والاستعاضة عنها بكيانات طائفية ضعيفة وتابعة.
لقد دفع هذا الوضع قوى إقليمية ودولية (روسيا، إيران الخ…) إلى التدخل إلى جانب النظام السوري، ليس بدافع “إنساني” أو “خيري” بل دفاعا عن مصالحها لأن سقوط سوريا وتفككها على غرار ما جرى في ليبيا والعراق تتضرّر منها تلك القوى بصورة مباشرة سواء في المستوى الاقتصادي أو في المستوى الأمني والاستراتيجي. ومهما كان لهذا التدخل من دور في الحفاظ نسبيا على الدولة السورية وعلى وحدة ترابها التي ما تزال مهددة، فلا يمكن لأحد أن ينكر أن القضية السورية خرجت إلى حد كبير من أيدي القوى الوطنية السورية وأصبحت محل تفاوض بين القوى الدولية والإقليمية التي ستتحكم بشكل أو بآخر في الحلول التي ستفرض على الجانب السوري وفقا لمصالح هذه القوى، وهو ما سيعسّر مستقبلا مهمة القوى الوطنية في استعادة زمام الأمور.
وبعبارة أخرى فإن تقييم الوضع السوري ينبغي أن تؤخذ فيه بعين الاعتبار مختلف التطورات منذ البداية، لا أن يقتصر على المرحلة الأخيرة بعد تعقيد الأوضاع وتبدل التناقضات من تناقض داخلي بين حراك ديمقراطي يشمل قطاعات واسعة من المجتمع، وبين النظام الحاكم الرافض للإصلاح الديمقراطي، إلى تناقض ذي طابع وطني يواجه بين المتمسكين بوحدة الدولة السورية شعبا وترابا وبين القوى الداخلية والخارجية التي تريد تدمير هذه الوحدة. إن الاكتفاء بهذه المرحلة الأخيرة من شأنه أن يقود إلى اعتبار كل ما جرى في سوريا (وغيرها من الأقطار العربية) في البداية من حراك ديمقراطي واجتماعي مشروع، مجرد “مؤامرة خارجية”، وهو ما ينكر على الشعب حقه في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ويبرّئ نظام الحكم من سياساته الرجعية (الاستبداد السياسي والاستغلال الاجتماعي) ويعفيه مستقبلا، إذا ظل قائما، من الاستجابة إلى مطالب الشعب الذي سيكون من حقه مجددا المطالبة بالتغيير.
إن إثارة هذه الجوانب تكتسي أهمية بالغة بالنسبة إلى كل ثوري حقيقي، ومن باب أولى وأحرى بالنسبة إلى كل اشتراكي، ثوري، يريد تطوير حركة وطنية، مستقلة، ديمقراطية وتقدمية، تفتح الباب على ثورة اشتراكية حقيقية تقضي على استغلال الإنسان للإنسان. إن من يرى في إثارة هذه الجوانب “خلطا بين التناقضات” أو “وضعا لمن يقف إلى جانب سوريا اليوم في نفس مرتبة الامبريالية والكيان الصهيوني والسعودية الخ…”، إنما هو مخطئ لأن عدم الخلط بين التناقضات والتمييز بين مواقع القوى المتصارعة لا يعني مطلقا طمس بعض التناقضات مقابل إبراز أخرى أو غض الطرف عن الطبيعة الطبقية الحقيقة لروسيا وإيران والصين علاوة على النظام السوري، لأن مثل هذا الموقف لن يسمح بتطوير حركة طبقية عمالية وشعبية، مستقلة ومناضلة وقادرة على تحقيق الثورة الوطنية والاجتماعية، بل إنه يجعل من الطبقة العاملة والكادحين عموما مجرد توابع لبورجوازية بلدهم ولبعض قوى الرأسمال العالمي حتى لو كانت اليوم غير مسيطرة أو ليست في مقام العدو الرئيسي للشعوب العربية الذي هو بلا شك الامبريالية الغربية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية وربيبتها الصهيونية.
وبالطبع فإن ما يطرح على القوى الثورية والتقدمية وعلى الشعوب العربية في علاقة بالقوى الخارجية، يطرح أيضا في علاقة بالداخل، أي في علاقة بالقوى البورجوازية والرجعية. فالقوى الثورية والتقدمية التي تطرح نفسها معبّرا عن مصالح الطبقة العاملة والكادحين في المدن والأرياف والفئات الوسطى من المجتمع التي يدمرها غزو الرساميل والسلع الأجنبية، مطالبة بالحفاظ على استقلاليتها الفكرية والسياسية ولا يمكنها بأي عنوان كان أن تتخلى عنها وتتحول إلى مجرد توابع للأحزاب الرجعية الحاكمة، تستعملها ديكورا لتبرير قمعها للشعب الكادح وتمرير سياساتها المعادية له مقابل بعض الفتات. إن حفاظ القوى الثورية والتقدمية على استقلاليتها الفكرية والسياسية هو الضامن لنسج التحالفات وصياغة التكتيكات السليمة وتصحيح الأخطاء والانحرافات حين تحصل، بل هو الضامن لاستقلالية الحركة الشعبية ونجاحها في نهاية المطاف.
إن كل وقتنا وجهدنا ينبغي أن ينصبّ على الالتحام بشعوبنا لكي نكسبها لبرامجنا التي ينبغي أن تكون الترجمان الواعي لمصالحها وطموحاتها. وعلينا أن ندرك أن الشعب هو الحامي والواقي والساتر، وأنّ الدعم الخارجي بما فيه دعم الأصدقاء، لا ينفع إلا إذا كان الحزب الثوري جزءا لا يتجزّأ من شعبه، منصهرا فيه ومعترفا له بقيادته، وهو ما يجب على كل حزب ثوري، يساري، عمالي، أن يعمل على تحقيقه.
أهمية العمل الجبهوي لتحقيق الانتصار
8ـ إن المهام التي يطرحها الواقع العربي الراهن، متشعبة ومتعددة، فهي في الآن نفسه مهام وطنية وديمقراطية واجتماعية وثقافية، تنطلق من التصدي لتفكيك الدولة وضرب المكتسبات وتمتد إلى تحرير الوطن من الاحتلال وبسط السيادة على الثروات، وإشاعة مبادئ الحرية والمساواة بما في ذلك المساواة بين الرجال والنساء، وتحقيق العدالة الاجتماعية، لتصل إلى قطع الطريق أمام التدخلات الأجنبية بمختلف أشكالها ومحاولات إعادة التقسيم والتجزئة وتفجير الكيانات القائمة. وهذه كلها مهام تعني غالبية طبقات الشعب وفئاته، لا طبقة العمال وحدها، وهي تقتضي بالتالي توحيد هذه الغالبية وتقوية صفها حول مشروع، وطني، علماني، ديمقراطي، اجتماعي، تقدمي، تكون الطبقة العاملة والطبقات الكادحة والفقيرة عماده والقوى الثورية والديمقراطية والتقدمية محركه وطليعته قطريا وقوميا.
ومن البديهي أن الجبهة هي الإطار القادر على تجميع كل هذه الطبقات والفئات. كما أنها هي القادرة على تجميع أبناء وبنات القوميات والديانات والمذاهب والثقافات المختلفة، وهي كثيرة ومتنوعة في الوطن العربي، وعملت القوى الاستعمارية والرجعية، على استغلالها دائما لزرع الفرقة وإثارة الصراعات والحروب الأهلية المدمرة. لذلك فإن تكوين جبهات نضال في كل الأقطار العربية، كل حسب أوضاعه الخصوصية، أمر متأكد للغاية لتجاوز حالة التشتت والضياع التي عليها القوى الثورية والتقدمية من جهة والطبقات والفئات الشعبية من جهة أخرى. إن غياب الأطر المجمّعة وسيطرة النزعات السكتارية، بمختلف أشكالها، والتي تغذّيها المصالح الضيقة وتقف وراءها أحيانا قوى إقليمية ودولية هو من أهم الأسباب التي تعرقل تطور النضال في أكثر من بلد عربي بما في ذلك في فلسطين التي تمثل عقدة الصراع في المنطقة العربية.
إن لبّ العمل الجبهوي هو التجميع على أساس برنامج سياسي يستجيب لمقتضيات المرحلة، بقطع النظر عن الانتماءات الفكرية للأطراف المعنية بهذا العمل. وهو ما يتطلب إلماما دقيقا بالتناقضات التي تتحكم في الوطن العربي بشكل عام وبكل قطر من الأقطار العربية بشكل خاص وتحديد الأولويات التي تمليها هذه التناقضات وصياغة برنامج مشترك على هذا الأساس، سواء كان ذلك في مستوى كل قطر على حدة أو في المستوى القومي العربي. ورغم أن هذا الموقف يبدو منطقيا جدا وسليما جدا لكل عقل متماسك، فإنه لا يجد طريقه إلى التطبيق في حياة الأحزاب اليسارية والتقدمية التي ما تزال تسيطر عليها العقلية الانعزالية التي تعجز عن فهم خصائص كل مرحلة، واستخراج الحلقة الرئيسية فيها التي تمكن من مسك كل السلسلة. وطالما أن القوى الثورية والتقدمية لم تستوعب هذه المسألة ولم تقلع عن ضيق النظر، فإن الشعوب العربية ستبقى عرضة لانتكاسات عديدة رغم ما تقدمه من تضحيات.
التجربة التونسية
9ـ إن التجربة التونسية في هذا المجال جديرة بالاهتمام. فالثورة التي انطلقت في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 في سيدي بوزيد وأدّت إلى سقوط الطاغية بن علي في 14 جانفي/يناير 2011، لم تسلم منذ البداية من المؤامرات الداخلية والخارجية بهدف إجهاضها.
لقد كانت المحاولة الأولى ترمي إلى إبقاء نظام بن علي دون بن على مع إدخال “إصلاحات” عليه وإكسابه طابعا ليبراليا، وكانت يد “فيترمان”، مسؤول الخارجية الأمريكية الذي قام بزيارات مكوكية إلى تونس، ظاهرة. ولكن الجماهير المنتفضة تمكنت من إفشال هذه المحاولة عن طريق أكبر اعتصامين في تاريخ تونس وقع تنظيمهما بساحة الحكومة بالقصبة (القصبة 1 والقصبة 2). وقد كان من نتائجهما إسقاط آخر حكومة يرأسها آخر وزير أول لبن علي وفرض حلّ الحزب الحاكم (التجمع الدستوري الديمقراطي)، والمؤسسات التمثيلية الصورية لنظام بن علي (البرلمان، مجلس المستشارين، المجالس البلدية) وتكوين حكومة مؤقتة مكلفة بمهمة تنظيم انتخابات عامة لاختيار أعضاء مجلس وطني تأسيسي مهمته صياغة دستور جديد لتونس يضمن الحريات الفردية والعامة والمساواة بين المواطنين بما فيها المساواة بين الجنسين، ويضبط مؤسسات الحكم الجديدة وآليات عملها. وقد وقع تنصيب “هيئة عليا لتحقيق أهداف الثورة” تتولى مهمة تشريع القوانين خلال الفترة السابقة لانتخابات المجلس الوطني التأسيسي، فصاغت هي القانون الانتخابي الذي انتخب بموجبه هذا المجلس.
وقد أدت انتخابات المجلس الوطني التأسيسي التي انتظمت في 23 أكتوبر 2011، إلى فوز “حركة النهضة” التي تنتمي إلى “حركة الإخوان المسلمين”. فعقدت تحالفا مع حزبين ليبراليين، هما “حزب المؤتمر من أجل الجمهورية” الذي أعطت إلى رئيسه، منصف المرزوقي، رئاسة الجمهورية، و”حزب التكتل من أجل الديمقراطية”، الذي أعطت إلى رئيسه، مصطفى بن جعفر، رئاسة المجلس الوطني التأسيسي، ولكنها كانت هي التي تمسك في الواقع دواليب الحكم. وقد استغلت هيمنتها على السلطة، التي ساعدتها عليها بشكل مباشر وغير مباشر، قوى غربية (الولايات المتحدة، ألمانيا، فرنسا…) وقوى رجعية، عربية وإسلامية (قطر، تركيا خاصة) وصعود “الإخوان المسلمين” في مصر وليبيا، بعد سقوط القذافي، والمغرب، لمحاولة الانقلاب على المسار الثوري في تونس والانحراف به عن أهدافه وإقامة دكتاتورية جديدة على أسس دينية.
وقد استعملت “حركة النهضة” كل الوسائل لتحقيق أهدافها، وفي مقدمتها العنف الرجعي ضد المعارضة والنقابات والإعلاميين والمثقفين والمبدعين والحركات الشبابية والنسائية الخ… وقد استعانت في ذلك بميليشيات نظمتها للغرض (“روابط حماية الثورة) وبالجماعات “السلفية” (أنصار الشريعة) التي ستنتقل في مطلع 2013 إلى ممارسة الإرهاب الدموي واغتيال قائدين كبيرين من قادة الجبهة الشعبية هما شكري بلعيد والحاج محمد البراهمي.
ميلاد الجبهة الشعبية:
التحول الهام في الحركة الثورية والديمقراطية
10ـ كانت نتائج اليسار والقوى الديمقراطية الثورية التونسية في انتخابات المجلي الوطني التأسيسي لعام 2011، هزيلة، إذ لم يتجاوز عدد النواب الذين حصلت عليهم الـ 7 صلب مجلس يضم 217 نائبا. وهو ما أعطى تفوقا هائلا للقوى الرجعية، “الإخوانية” والليبرالية، وشجعها على السير قدما في اتجاه الالتفاف على المسار الثوري ومحاولة إجهاضه بالكامل. وقد كان تشتت القوى الثورية والديمقراطية وتقدمها إلى الانتخابات غير موحدة، من أهم العوامل التي تفسّر ضعف النتائج التي حصلت عليها في الانتخابات. لقد كان بإمكانها، لو تقدمت في قائمات موحدة، الحصول على نتائج أحسن، تمكنها من احتلال موقع أفضل، رغم كل الضغوط التي مارستها القوى الرجعية على الناخبين وكثرة الأموال التي صرفت لشراء لأصوات وحملات التشويه التي استهدفت القوى الثورية في المساجد وفي وسائل الإعلام وفي الاجتماعات العامة.
ومن حسن الحظ أن النتائج السلبية التي حصلت عليها القوى اليسارية والديمقراطية الثورية في الانتخابات، مثلت حافزا كبيرا لهذه القوى كي تضع حدّا لتشتتها. وكان لوجود قيادات صلب هذه القوى، مؤمنة بأهمية الوحدة وقادرة على مقاومة النزعات السكتارية داخل أحزابها ومنظماتها، دور حاسم في التجميع والتوحيد، فكان إعلان تأسيس الجبهة الشعبية في 7 أكتوبر 2012، أي عاما بعد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي. وقد انبنت الجبهة الشعبية، التي تضمّ أحزابا ماركسية وقومية عربية تقدمية وشخصيات مستقلّة، على أرضية سياسية ثورية، ديمقراطية، مجمّعة. وهو ما يمثل قفزة نوعية في تاريخ هذه الأحزاب والمنظمات التي كانت العداوات الأيديولوجية تحكم علاقات بعضها ببعض الخ…
وقد كان لميلاد هذه الجبهة تأثير كبير في تعديل موازين القوى السياسية في الساحة التونسية، وفي الدفع نحو مزيد توحيد القوى الديمقراطية والثورية، بل إن تشكيل الجبهة الشعبية كان له دور كبير في إفشال مشروع حركة النهضة وحلفائها من القوى الظلامية (أنصار الشريعة خاصة) والليبرالية الرامي إلى إقامة دكتاتورية جديدة في البلاد بغطاء ديني.
جبهة الإنقاذ خطوة حاسمة في إسقاط مشروع اليمين “الإخواني”
11ـ تعتبر “جبهة الإنقاذ” التي بعثت على إثر اغتيال الشهيد الحاج محمد البراهمي يوم 25 جويلية/يوليو 2013، أي قرابة 6 أشهر بعد اغتيال الشهيد شكري بلعيد، على أيدي نفس العصابات الإرهابية، المتمركزة في الجبال والمدن على حد السواء والتي تبحث عن إسكات المعارضة الثورية والتقدمية، خدمة للمشروع الظلامي الرجعي، من أهم التكتيكات الناجحة والمليئة بالدروس التي خاضتها الجبهة الشعبية والتي مثلت دليلا على نضجها السياسي وقدرتها على التعاطي مع الأوضاع المحلية والإقليمية الصعبة والمعقدة والقطع مع القوالب الجامدة والطفولية اليسارية.
لقد أحسّت الجبهة الشعبية بالخطر الفاشستي الزاحف الذي يستهدف كل المكاسب الديمقراطية التي حققها الشعب التونسي في ثورته كما يستهدف المكاسب التي حصلت عليها النساء نتيجة نضالهن من أجل المساواة في الحقوق. ولم تكن الاغتيالات السياسية، التي اتسعت تدريجيا لتشمل أعوان الأمن والجيش، بهدف تفكيك مؤسسات الدولة وإضعافها، استعدادا للانقضاض على المجتمع، والسيطرة عليه، والاعتداءات الجسدية على الديمقراطيين والتقدميين في كافة المجالات، سوى أحد مظاهر الهجوم الفاشستي على الشعب والمجتمع.
لقد كانت حركة النهضة الماسكة بالسلطة وصاحبة الأغلبية في المجلس الوطني التأسيسي أعدّت دستورا رجعيا، في 1 جوان/يونيو 2013، لفرضه على المجتمع. كما كانت الحكومة التي تسيطر عليها، لا تتوانى عن فرض الإجراءات تلوى الأخرى لضرب الحريات والتحكم في وسائل الإعلام ومنع الاجتماعات والتظاهرات المدنية والسلمية، وتجريم التحركات الاجتماعية الاحتجاجية، مستعملة في ذلك أجهزة القمع الرسمية من جهة وأجهزة أمنية أخرى موازية وميليشيات مكّونة من عناصر إجرامية، كانت تستقبل حتى في قصر الرئاسة، من جهة أخرى. وكان لرجال الدين المتطرفين دور كبير في كل هذا إذ كانوا يستعملون المساجد لتقسيم التونسيين بين “مؤمنين” و”كفار” وللتحريض علنا على الأحزاب والمنظمات والنقابات والشخصيات الديمقراطية والتقدمية وللدعوة إلى القتل.
لقد أدركت الجبهة الشعبية أن الخطر الفاشستي هذا يهدد غالبية المجتمع والأحزاب والقوى السياسية والمدنية، كما يهدد وحدة الشعب التونسي، وحتى وحدة الدولة والبلاد، ويفتح الطريق إلى حرب أهلية مدمرة كتلك التي تجري في ليبيا وسوريا. ومن هذا المنطلق فهمت الجبهة الشعبية أن الوقت يفرض تجميع غالبية القوى الاجتماعية والسياسية التي لها مصلحة في التصدي للخطر الفاشستي الزاحف في كل مظاهره، فدعت إلى تشكيل “جبهة إنقاذ” تضم حتى القوى البورجوازية الليبرالية التي ترفض الدولة الدينية، والتي مسّتها الاعتداءات. فتشكلت هذه الجبهة على إثر اغتيال الشهيد الحاج محمد البراهمي وحددت لنفسها برنامجا واضحا: إسقاط دستور 1 جوان/يونيو 2013 وتعويضه بدستور ديمقراطي، وإسقاط حكومة “النهضة” وتعويضها بحكومة أخرى مؤقتة تعدّ لانتخابات تشريعية ورئاسية في أجل محدد.
وبناء على هذا البرنامج نظمت “جبهة الإنقاذ” ما أصبح يعرف بـ «اعتصام الرحيل” (أي رحيل حكم “الترويكا” بزعامة حركة النهضة) الذي انطلق يوم 27 جويلية/يوليو 2013، واختار مكانا له هذه المرة بساحة باردو أين يوجد مقر المجلس الوطني التأسيسي. فشلّ هذا الاعتصام عمل المجلس كما شلّ عمل الحكومة، وفرض على التحالف الحاكم بزعامة “النهضة” الدخول في مفاوضات برعاية كبريات منظمات المجتمع المدني وفي مقدمتها المركزية النقابية، الاتحاد العام التونسي للشغل. ولا بد من ذكر أن التطورات الحاصلة في المنطقة ومنها خاصة سقوط حكم الإخوان في مصر، كانت من بين العوامل الخارجية الضاغطة على حكم “الإخوان” في تونس والتي دفعتهم إلى التراجع.
وقد أدت هذه المفاوضات التي دامت عدة أشهر إلى مراجعة الدستور وإلغاء الفصول الرجعية فيه وتعويضها بأخرى تضمن الطابع الجمهوري والمدني للدولة، كما تضمن الحريات، بما فيها حرية العقيدة، والمساواة في الحقوق بين النساء والرجال. كما أدت إلى إسقاط حكومة النهضة واستبدالها بحكومة أخرى مؤقتة ترأسها شخصية “مستقلة” للإشراف على الانتخابات العامة التشريعية والرئاسية وفقا للدستور الجديد. وهو ما مثل انتصارا كبيرا للحركة الديمقراطية التونسية، وللشعب التونسي الذي مرّ بأصعب الظروف في ظل حكم حركة النهضة وتمكن من اجتناب السقوط في فوضى كبيرة لن تستفيد منها سوى القوى الفاشية، ومن إنقاذ المسار الثوري.
تعزيز مكانة الجبهة الشعبية ودورها في المجتمع
12ـ إن هذا الانتصار ما كان ليتحقق دون تكتيك “جبهة الإنقاذ” الذي كرسته الجبهة الشعبية. لقد كانت جبهة الإنقاذ عبارة عن تحالف طبقي واسع للتصدي لخطر داهم من مصلحة الجميع، وبالخصوص القوى الثورية والتقدمية، إزاحته لما فيه من ضرر للطبقة العاملة والشعب عامة. ورغم أن الجبهة الشعبية لم يكن لها نفس حجم القوى الليبرالية من ناحية الإمكانات البشرية والمادية، فقد كان لها تأثير سياسي كبير في ضبط توجهات جبهة الإنقاذ وفي تسيير نشاطها، وذلك بسبب فهمها السليم لموازين القوى وللمهام التي يقتضيها الوضع والتحالفات الضرورية لتحقيقها، وابتعادها عن الشعارات الجوفاء التي لا علاقة لها بالواقع.
لقد تعرضت الجبهة الشعبية إلى الانتقاد، حتى من مناضلين نزهاء، لأنها مدت يدها إلى قوى بورجوازية ليبرالية، معتبرة ذلك “خطأ فادحا” لكن قيادات الجبهة ردّت بأن التكتيك السليم لا يمكن ضبطه دون إدراك خصائص كل مرحلة من مراحل تطور الصراع الطبقي وتحديد الخطر الرئيسي الذي يهدد الطبقة العاملة والشعب وفهم حقيقة موازين القوى بين الطبقات والقوى السياسية الفاعلة في المجتمع لرسم التحالفات وأشكال النضال والعمل التي من شأنها تجميع أوسع القوى الممكنة لإزاحة ذلك الخطر. وفي الواقع فإنه لولا تكتيك “جبهة الإنقاذ” لما تحقق للطبقة العاملة والشعب ما تحقق لهما من مكاسب هما الآن يستغلانها لمواصلة نضالهما من أجل التصدي للقوى الرجعية وتحقيق أهداف ثورتهما.
وما من شك في أن انتخابات أكتوبر 2014 التي جاءت بعد سقوط حكومة “الإخوان” في تونس، قد أفرزت أغلبية لفائدة القوى البورجوازية، ومكنت حركة النهضة من المحافظة على مكانة هامة في الساحة السياسية إذ أنها حصلت على المرتبة الثانية في الانتخابات التشريعية، بعد حزب “نداء تونس”، الليبرالي. ولكن الجبهة الشعبية تقدمت بالمقابل، فهي القوة السياسية الثالثة في البلاد ولها كتلة برلمانية محترمة (15 نائب) ومؤثرة في البرلمان، علاوة على أن مرشحها حصل على المرتبة الثالثة في الانتخابات الرئاسية.
وإذا كان تأثير حزب “نداء تونس” و”حركة النهضة” المتحالفين في الحكم منذ ما بعد الانتخابات، هو الآن بصدد التراجع نتيجة فشل هذين الحزبين في تحقيق آمال الطبقات الكادحة والفقيرة، فإن تأثير الجبهة الشعبية يتزايد نسبيا، وما كان لذلك أن يتحقق لولا التكتيكات المبدئية والمرنة التي اتبعتها منذ تأسيسها. ولا يمكن بالطبع الاستناد إلى التحالف الذي يتم اليوم بين حزب “نداء تونس” الذي كان بالأمس في “جبهة الإنقاذ” و”حركة النهضة “، للحكم بالسلب على تكتيك “جبهة الإنقاذ”، لأن ما هو تكتيكي يختلف عما هو استراتيجي، عمّا هو صالح لمرحلة كاملة، بكونه، ظرفيا، لا يصلح إلا للحظة محددة، في موازين قوى معينة، ولا يمكن الحكم عليه بطريقة سليمة إلا من زاوية الحاجة إليه، أو عدم الحاجة، ضمن سياق تاريخي محدد، لتطوير الحركة الثورية أو تجنيبها خسارة أو هزيمة مكلفة. ومن هذه الزاوية فإن تكتيك جبهة الإنقاذ كان سليما. أما ما حصل بعده من تغيير في المواقع فهو أمر طبيعي. فالجبهة الشعبية لم يجمعها بحزب “نداء تونس” سوى مصلحة ظرفية، لا استراتيجية، ولم يكن لديها أي وهم حول حليفها الظرفي، بل إنها كانت تتوقع تحالفه مع “حركة النهضة”، بعد الانتخابات، لذلك تتصدى الجبهة الشعبية اليوم لهذا التحالف وهي لا تتوانى عن فضح مواقف حزب “نداء تونس” ومقاومتها بحزم ومبدئية، بما يؤكّد استقلاليتها السياسية وإخلاصها للأرضية التي تأسست عليها.
إن تجربة الجبهة الشعبية في تونس لها أهمية خاصة في واقعنا العربي الراهن ويمكن الاستفادة منها في باقي الأقطار العربية لمواجهة الأوضاع الصعبة والمعقدة التي تعيشها شعوبها والتي تتطلب من القوى الثورية والديمقراطية والتقدمية توحيد صفوفها حتى تتمكن من توحيد هذه الشعوب ومنع إعادة تمزيق صفوفها بعد 100 عام ونيف من اتفاقية سايكس ـ بيكو وقرن كامل من وعد بلفور، على أسس دينية ومذهبية، وتقريب ساعة خلاصها من الاستعمار والصهيونية والرجعية